مرة اخرى يعود لبنان إلى واجهة الأحداث ليس فقط عبر أحداث المواجهة بين الجيش وتنظيم فتح الاسلام، ولا عبر التفجير الذي هز بيروت ليل الاثنين، بل عبر الوضع السياسي والامني الذي يعيشه منذ سنوات.
ومشكلة لبنان أن قواه السياسية "سرقت" جزءا من قوة الدولة وسلطتها وهيبتها حسب نفوذ هذه القوة وتمويلها وعلاقاتها الدولية والسجل العددي للميليشيات التي تملكها، وللمحافظة على الجزء المسروق من الدولة ذهبت الاطراف تبحث عن غطاء سياسي خارجي يوفر لها الحماية الخارجية والتمويل ومصادر السلاح. طبعا كل هذا ليس لوجه الله تعالى بل مقابل تأميم الدولة لتتحول الى جزر نفوذ للدول الداعمة ولأجندات القوى السياسية، ولهذا كل من يريد ارسال رسالة اقليمية يفعل هذا في لبنان، وكل من يخوض حروبا سياسية او عسكرية يفرغ هذا في لبنان.
القوة التي نراها لبعض القوى اللبنانية ليست خاصة بها، بل هي نتاج نفوذ ومصالح اسيادها، فمثلا هنالك تنظيم فتح الاسلام، وهو تنظيم حديث، لكن ما جرى مؤخرا اثبت ان هذا التنظيم يملك قوة عسكرية مؤثرة من حيث التسليح والتدريب والانتشار الجغرافي، وهذا ينطبق على امثلة اخرى، لكن الاجابة ليست سحرا او لغزا، بل واضحة فالدول التي تعبث بلبنان يمكنها تسريع نمو اي تنظيم تريده عبر ضخ امكانات مالية وعسكرية لتحوله الى رقم مؤثر.
في لبنان، حتى اشد المتحدثين عن الدولة لا يثقون بها لأنهم يعلمون انها فقدت قدرتها على ان تكون المرجعية، وحتى الامن الشخصي لهؤلاء تتولاه شركات خاصة او ميليشيات كل طرف، لكنهم لا يستمدون امنهم من اجهزة الدولة الا لغايات الشكل الرسمي، الجميع يعلنون حبهم للوطن وحرصهم على فكرة الدولة، لكن لكل طرف مرجعيته الخارجية، فلبنان ارض تحكمها عدة دول، والشعب تضيع مصالحه ويتم هدر امنه وهو يقلب نظره بين انواع المدارس السياسية والميليشيات والنزاعات.
الجميع نزع الشرعية عن الجميع، فالرئيس ليس شرعيا لدى فئات سياسية، والحكومة ايضا يعتبرها البعض غير دستورية، ومجلس النواب محل جدل ومعطل، وهكذا فالمحصلة كمؤسسات دستورية محل جدل وعلى شرعيتها سؤال كبير، والدولة كمظلة ومرجعية شبه انقاض دستورية.
جزء من المشكلة ان بعض القوى ترى نفسها اقوى من الدولة، وفي لحظات الازمات يتم الاستقواء على الدولة والاستعراض بحقها، ونسمع خطابا سياسيا من البعض يتحدث فيه عن دولته كما يتحدث الابن القوي الغني عن ابيه المريض العاجز، ومثل هذا الخطاب مهما كان عاطفيا فإنه حديث استقواء، وحتى العطف ترافقه مشاعر المن والفوقية.
مشكلة لبنان ليست في فتح الاسلام، بل في تنظيمات وأحزاب وميليشيات "فتح لبنان"، التي قسمت الدولة الى مناطق نفوذ استولى كل طرف على جزء منها، لكن هذه الاجزاء مهما تم تجميعها رياضيا فإنها لا تعود دولة، واخطر ما يصيب اي دولة ان يكون الرئيس من وجهة نظر البعض ليس رئيسهم, والحكومة لدى آخرين ليست حكومتهم، وان يعتقد البعض ان حل مشكلاته تتم عبر سلاحه وميليشياته وبالاستقواء بالسيد الخارجي.
ومع خصوصية الصورة اللبنانية؛ فإننا ونحن نحتفل اليوم بذكرى الاستقلال العزيزة، فإن احدى اشكال ترسيخ الاستقلال لأي دولة ان تبقى الدولة هي عنوان السيادة، وان لا يتم الاستقواء من اي طرف على الدولة او على القانون، وان يبقى الدستور والقانون معادلة العلاقة بين الجميع، وان تكون اللغة منا جميعا نحو اوطاننا لغة الانتماء وليس الاستقواء او العطف الفوقي، سواء كنا حكومات او قوى مجتمع او اشخاصاً نعتقد ان سر قوتنا في علاقاتنا الخارجية.
الدول تفقد استقلالها على ايدي ابنائها حين يتم تقاسم اجزاء الدولة على شكل نفوذ لأحزاب وميليشيات، ويتعمق الامر حين يبيع كل طرف حصته من الدولة لدول وأسياد من الخارج، ولهذا نرى من يريد حل مشكلة في لبنان لا يذهب الى طرفها اللبناني، بل الى مصدر القرار في واشنطن او طهران او دمشق او باريس.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   سميح المعايطة