جزء من الفكر الصهيوني السياسي في ادارة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي كان يقوم على تفريغ الأرض الفلسطينية، وهنا لا نتحدث عن تهجير قسري او اخراج لكل الشعب الفلسطيني من ارضه فهذا امر مستحيل الآن، لأن عملية التهجير القسري لم تعد ممكنة، اما اخراج الفلسطينيين بأعداد كبيرة فيقابله صمود وتمسك بالأرض.
الفكر السياسي الصهيوني كان يسعى إلى جعل الأرض الفلسطينية أرضا طاردة لأهلها، فكل من يملك خيارا للعمل او الإقامة خارجها فكّر في هذا وربما مارسه، لكن الأهم بالنسبة للإسرائيليين أن يرسخوا قناعات ويرسموا واقعا تكون فيه مناطق السلطة في وضع سياسي وأمني وخدماتي واقتصادي سيئ، وأن تكون الحياة هناك صعبة ومعاناة للشعب الفلسطيني.
هذه الحال المتردية تريد اسرائيل منها ارسال رسالتين وتحقيق هدفين؛ الاول ان الواقع الفلسطيني المتردي وغياب الأمن وتضاؤل فرص العمل والسلطة السياسية الشكلية هي العائق الحقيقي امام قيام دولة فلسطينية حتى بنصف سيادة، ويتجلى ذلك فيما نشاهده في غزة، فحتى بعد انسحاب قوات الاحتلال لم تستطع السلطة داخلها ان تحولها إلى منطقة فلسطينية تكفل شروط الحياة الاساسية، وما هو اهم من الاقتصاد كان تكريس واقع سياسي وأمني تحمل فيه الفصائل والعشائر سلاحها وتستعمله لحل المشكلات والحصول على الحقوق، فالفلتان الامني -كما يسمى إعلاميا- هو نقيض لمفهوم السلطة وسيادة القانون، لهذا فالفصائل ذات سلطة اكبر من الحكومة وهي تفرض ايقاعها، بل ان قوى السلطة قوى فصائل اكثر من كونها احزابا وقوى سياسية.
اما الهدف الثاني الذي ارادته اسرائيل فهو صناعة قناعة لدى فلسطينيي الشتات ان اي خيار هم فيه الآن افضل من خيار العيش في ظل الواقع الفلسطيني الحالي في الداخل. فالواقع الفلسطيني تحت هيمنة الاحتلال وأساليبه في التضييق والمعاناة سيئ، لكنه ايضا تحت حكم السلطة واقع سياسي صعب، ومعاناة معيشية وتعليم يعاني وأمن غائب.
في بداية التسعينيات الماضية كان بعض قادة الفكر السياسي الصهيوني يتحدثون عن ضرورة ايجاد حالة تفاوت في المستوى الاقتصادي بين الداخل الفلسطيني والخارج العربي، بحيث تحدث الهجرة الاختيارية ويتسرب الفلسطينيون الى خارج بلادهم للبحث عن العمل والتعليم، لكن يبدو ان تطور الامور جعل البحث ليس عن تفاوت اقتصادي فقط، بل عن فجوة امنية وسياسية.
والمفارقة ان بعض النخب ترفع صوتها مذكرة ايجابيا بعاطفة بأيام الحكم الاردني للضفة، او مطالبة بإلغاء قرار فك الارتباط ليس فقط لأنها معنية بمصالح خاصة، بل لأن في عقول هذه النخب وجهات اخرى مقارنة بين واقع السلطة الفلسطينية والحياة في الاردن، لهذا ترفع هذه النخب صوتها مطالبة بإلغاء فك الارتباط، على الرغم انه قرار جاء ليحقق الهوية الوطنية الفلسطينية ويغلق عقودا من الصراع مع منظمة التحرير.
اقامة الدولة الفلسطينية ليست حكاية سياسية، بل هي الرد الحقيقي على المشروع الصهيوني، وكل الافكار والمشاريع ابتداء من الفدرالية الى الكونفدرالية او إلغاء قرار فك الارتباط ستكون على حساب فكرة الهوية الفلسطينية والدولة وخدمة للمشروع الصهيوني.
لعل بعضنا ينسى احيانا ان العدو الصهيوني الذي نواجهه جميعا قوي وذكي وقادر على التلاعب بالمعطيات واستغلالها، وان صراعا بهذا الحجم عندما يخضع لحسابات فرعية او يتحول الى سعي لمكاسب خارج اطار استعادة الحق لا يستفيد منه الا المحتل، فكل حل او فكر لا يجسد فلسطين كأرض ودولة وهوية سيعود بالقضية الى مربعها الاول.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد سميح المعايطة