تعودنا في المناسبات الحزينة من تاريخ الأمة أن نوجه قذائف الشتائم او معظمها للعدو الصهيوني، وأن نتحدث عن جرائمه التي لم تنته ما يزال موجوداً، لكن كل هذا نصف النكسة، فنكسة الأمة او نكبتها ليست فقط في العدوان الصهيوني واحتلاله للأرض العربية وتشريده للشعوب، لكن هنالك نكسة لا علاقة للمشروع الصهيوني بها، نكسة صنعتها الامة او بعضها، وكانت من الاسباب الهامة التي ادت الى ضياع الأرض والحقوق.
قبل النكسة وعدوان عام 1967 كانت الامة تعيش في وهم في الخطاب والزعامة والقدرة العسكرية، كانت انظمة تمارس الهدر والصوت العالي والتعبئة القائمة على الوهم لدرجة ان الامة كانت تعتقد ان اسرائيل ليست خصماً عسكرياً حقيقياً، فعندما نصنع احلاماً تقذفهم في البحر، او نبدأ بالتخطيط لبرامج سهراتنا في تل ابيب بعد النصر، فمن الذي صنع هذا الوهم لدى الناس؟
قبل النكسة كانت بعض الزعامات تقدم نفسها على انها ذات مواصفات تمكنها من حكم العالم لنكتشف ظهر يوم الخامس من حزيران انها لا تدري شيئاً عن معدات جيوشها، وأنها إما تعيش تحت استغفال من حولها او شريك في تضليل الناس؛ لهذا فالنكسة ان نضع الامة في اجواء الحرب ونهدد ونتوعد ونطرد القوات الدولية ونغلق المضائق والممرات الدولية ثم نصحو بعد ايام على طائراتنا ومطاراتنا وهي مدمرة تماماً لاننا لم نتوقع من العدو ان يبادر بالهجوم! فهل من يهدد بالحرب ويطرد القوات الدولية ويعبئ الناس لا يتوقع ضربة عسكرية من عدوه ام ان هناك نكسة من نوع آخر؟
اسرائيل عدو نتوقع منه كل سوء، لكن النكسة الحقيقية في ادارة هذا الصراع. فبينما كانت اسرائيل تعد نفسها عسكريا وتضع الخطط وتزرع الجواسيس حتى في اعلى وأهم المواقع، كانت بعض الانظمة منشغلة بشعوبها، وأسلحتُها في مواجهة العدو الخطابات التي تعزز مواقعها، وأنظمة كانت مستنزفة بالانقلابات، ولهذا كان طبيعياً ان تكون النكسة العسكرية، لكن الكارثة ان نكساتنا الاخرى بقي الكثير منها.
وما نجحت به اسرائيل بعد اربعة عقود من النكسة انها صنعت واقعاً عربياً جديداً. فالجميع بما فيهم حركات المقاومة توافقت على القبول بدولة يهودية على اراضي عام 1948 وأصبح البرنامج السياسي العربي عبر المبادرة العربية المطالِبة بدولة على حدود 1967، وأكثر القوى "تشدداً" تحاول تغطية هذا القبول بأنه لا يمثل تنازلاً عن بقية الأرض، وهذا استغفال للناس؛ فمن يسعى لدولة على اراضي 1967 بالوسائل السياسية السلمية لن يحصل عليها مجاناً بل وفق قرارات الامم المتحدة التي تنص على الاعتراف بدولة الاحتلال.
ومن النكسات التي اعقبت النكسة العسكرية ان مصر تحت حكم عبدالناصر كانت اول دولة عربية قبلت بقرار مجلس الأمن رقم 242 وهو قرار نص صراحة على حق اسرائيل بالوجود، لكن مصر ومعها كل العرب عادوا للخطاب غير الحقيقي في الخرطوم عام 1968، عندما صدرت اللاءات الثلاث التي ترفض الاعتراف والتفاوض، ثم جاءت مبادرة روجرز عام 1970 فقبلت بها مصر ودول عربية اخرى، وهي مبادرة تنص على الاعتراف.
النكسة بتعريفها المباشر ضياع الأرض عام 1967, لكن حدود هذه الأرض وحجمها تغيرت عبر الاتفاقات المختلفة، فاتفاق اوسلو اعاد تعريف حدود الأرض وحجمها وفق الواقع الذي صنعته السياسات الصهيونية من استيطان وشروط امنية، وما كان يعرف عربيا بالتنازل, وهو حدود عام 1967, اصبح مطلبا عربيا جماعيا لكنه يواجه باستدراك صهيوني يجعل الحق يأخذ تعريفا جغرافيا مختلفا، وهنالك الجولان الأرض السورية المحتلة لم يتم تحريرها وفق مفاوضات واتفاقات، ولم تحدث فيها مقاومة، ولم تقم الدولة التي كانت تملكها بالعمل على تحريرها، وهكذا فما بين الشروط الامنية لجزء من الأرض، والتعريف الجغرافي لجزء آخر، والصمت للجزء الثالث تمر العقود الاربعة على النكسة.
ربما لم تعد النكسة لدى الناس ذكرى هامة لأن تتابع النكسات والخسائر والتنازلات وتجذر الضعف العربي جعل مما جرى عام 1967 على مرارته اقل تأثيرا مما جرى بعده.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   سميح المعايطة