في الذكرى المئوية لوفاة الشيخ الإمام محمد عبده
 
   يمثل الشيخ الإمام محمد عبده مدرسة شامخة في تجديد الفكر الإسلامي الحديث، تنطلق فلسفة هذه المدرسة من ضرورة الاجتهاد ونبذ الجمود والتقليد لتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية وأهدافها، والانتقال من الركون لحالة الكسل الذهني والفتاوى الفقهية الجامدة إلى روح الشريعة ومحورية العقل في فهم الأحكام والتعامل مع النصوص.
 
   ويمكن القول -بارتياح شديد- أن الشيخ الإمام أحدث ثورة معرفية وفكرية، وقاد مرحلة انتقالية مهمة أدت إلى قطيعة مع الفكر الإسلامي السابق له، وإذا كان الشيخ تلميذا مخلصا لرؤية جمال الدين الأفغاني في تفكيك الجمود الذي كان يسيطر على "الحالة الإسلامية" إلاّ أن مساهمته الفعلية جاءت في مجال الإصلاح الديني بمختلف مستوياته: الاجتهاد في الفقه الإسلامي، تجديد المقال في التوحيد من خلال رؤية جديدة تتجاوز الأدبيات السابقة -التي كررت واجترت الخلافات بين الفرق والمذاهب الإسلامية- ليعيد الاعتبار إلى التوحيد من حيث هو رسالة تدفع بالإنسان من غياهب الظلمات والشرك والبدع والتعلق بالأوهام إلى نور العلم والمعرفة، والدفع باتجاه الإخلاص لله  في العمل والعبادة بعيدا عن الشروحات والمتون التي حولت التوحيد والفقه من مصدر عطاء وتفكير إلى  تقليد وتحجر، أدى بعلماء الدين وفقهاء الشريعة ليتحولوا من مصلحين ومجددين ودعاة للتقدم والإبداع إلى محافظين مقلدين يحاربون كل دعوات التقدم والتحرر.
 
     فما قام به الإمام بالفعل أنه "قلب الطاولة رأسا على عقب" إذ جعل من تياره الفكري الإسلامي في مقدمة المجتمع ودفع باتجاه التطور والتقدم والتجديد وتجاوز كل الخطوط الحمراء التي وضعت باسم الدين وفي حقيقتها لم تكن سوى سياج من التقليد يحول بين الإسلام وبين تحقيق أهدافه الإصلاحية العامة. ولذلك ليس غريبا أنْ يكون محمد عبده هو من رعى وأشرف على كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة"، وأنه كان أستاذ سعد زغلول القائد الوطني المصري المعروف.
 
    ربما كانت مشكلة المدرسة السياسية للإمام –في نظر عدد كبير من الباحثين-  أنه لم يقد ثورة مسلحة ضد الاحتلال البريطاني، بل كانت علاقته مع الاحتلال جيدة، والسبب ليس نقصا في وطنية الشيخ أو تواطئا مع الاحتلال، وإنما للظروف الحضارية والتاريخية التي شكلت شروط التفاعل بينه وبين واقعه، فقد رأى أنّ الجانب الأهم من المشكلة الحضارية لا يتمثل بالاستعمار العسكري، بل بالتخلف وهو الذي أعطى المبرر ومهّد الطريق للاستبداد والاستعمار، ولو كانت الأمة متحررة من قيود التخلف والجهل لما تمكن الحكام من استعبادها ولما دخل الاحتلال أراضيها، والمرحلة الأولى من الإصلاح تتمثل بالإصلاح الديني وتحرير الدين مما علق به من شوائب ومفاهيم خاطئة؛ لأن تحرير الدين يؤدي إلى تحرير فكر الإنسان وإزالة الفصام المتوهم بين الإسلام وبين العصر والتقدم والذي كان عنوانه آنذاك "المدنية". من هنا عدّ كثير من الباحثين أن فكرة محمد عبده الرئيسة هي "التوافق بين الإسلام والمدنية".
 
    في مقابل مدرسة محمد عبده كانت مدرسة مصطفى كامل تركز على البعد السياسي في مناهضة الاحتلال والسلطة الحاكمة في مصر، الأمر الذي خلق تجاذبا وصداما إعلاميا بين المدرستين الفكريتين، إلاّ أنّ الاختلاف الحقيقي بين المدرستين لم يكن حول الموقف من الاحتلال وجدوى الاستقلال، ولكن حول "الأولويات" التي ينبغي السير بها للوصول إلى الاستقلال الحقيقي، فقد رأى مصطفى كامل أن الاستقلال السياسي وخروج الاحتلال يشكل أولوية مصرية فيما رأى محمد عبده أن الاستقلال السياسي له متطلبان رئيسان: استقلال الإرادة وحرية الأفراد، كي يكون استقلالا سياسيا وحضاريا ناجزا، وليس شكليا.
 
    لقد قاد الإمام محمد عبده ثورة تاريخية بحق، لكنها لم تكن ثورة مسلحة ضد الاحتلال العسكري، بل ثورة فكرية ومعرفية ضد احتلال العقل والفكر بجيوش الأوهام والدجل والخرافات وقيود الجمود والتقليد، فجدد المعرفة الدينية، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، ولم يكتف بالجانب النظري من العمل والعطاء، بل انتقل إلى ساحة التطبيق العملي إلى أبرز المؤسسات الدينية في وقته "الأزهر" إذ عمل على تجديد المعارف الدينية فيه، وإصلاح طرق التدريس ومناهجه منتقدا أسلوب الاستظهار والحفظ ومؤكدا على أهمية الفهم والتفكير، ولعلك تجد انعكاس ملاحظته السابقة بوضوح في سفره الكبير "تفسير المنار" والذي قدم فيه عصارة فهمه واجتهاده ووظف كل أدواته المعرفية سعيا إلى بناء ادراك إسلامي جديد للمرجع الأساسي للفكر والفقه الإسلامي "القرآن الكريم"،  فبين في مقدمة المنار أن هدفه من هذا التفسير استعادة دور القرآن ككتاب هداية للبشرية وهو الهدف الذي كادت كثير من تفاسير القرآن أن تفقد التواصل معه، من خلال الاهتمام بقضايا أخرى شغلت المفسرين عن هذا الهدف الرئيسي.
 
    وعلى صعيد الفكر الإسلامي رفع الإمام مطالب المرآة بالتحرر ودافع عن حقوقها، كما تحدث بوضوح شديد عن مدنية السلطة السياسية في الإسلام وعرّف السلطة السياسية -في الإسلام- بعبارة مورزنة منهجية إذ عرّفها بأنها "سلطة مدنية بوظائف دينية".
 
    أما اختصار بعض الباحثين مدرسة الإمام الفكرية بمفهوم "المستبد العادل" ففيه جور وفصل لهذا المفهوم عن وظيفته السياسية التي أرداها الإمام، وعزل له عن الظروف التاريخية المرتبطة به، فقد قصد الإمام بهذا المفهوم "مرحلة تاريخية مؤقتة" لنقل الأمة من حالة التخلف والتأخر إلى مرحلة النهوض والتقدم والإعمار، ولم يكن هذا المفهوم في إطار الدفاع عن الاستبداد والطغيان، وكيف ذلك والإمام هو من رواد المفكرين الإسلاميين الذين دافعوا عن الحرية والمدنية والعقل، وهي أبرز أدوات محاربة الاستبداد؟!، ومن عباراته المشهورة في هذا المجال "الأمة العاقلة لا تظلم"، فقد كان عمل الإمام منصبا على تجفيف منابع الاستبداد وتدمير بنيته التحتية الجاثمة على عقول الناس وأفكارهم.
 
    اليوم، وفي ذكرى مرور مائة عام على وفاة الإمام المجدد محمد عبده (1849- 1905)، وبعد عقود طويلة من القطيعة والتجاهل بحجج عديدة، وبسبب فتاوى فقهية/ فكرية صدرت ضد مدرسته تارة بحجة العقلانية! وتارة بحجة العلاقة مع الإنكليز، فإن الفكر الإسلامي يعود إلى مدرسة محمد عبده ومبادئها الفكرية والمعرفية، وينطلق من رؤيتها الإصلاحية، ولعل هذا هو التكريم العملي الحقيقي لهذا العالم الفذ بذكرى وفاته المئوية. 
FacebookTwitterطباعةZoom INZoom OUTحفظComment

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد