المؤتمر الصحفي الذي عقده زعيم حركة حماس خالد مشعل –على هامش المؤتمر التأسيسي للحملة العالمية لمقاومة العدوان في الدوحة- يكشف عن تحول كبير في خطاب الحركة السياسي، سيكون له انعكاساته على دورها السياسي، وعلاقتها بالسلطة وبالقوى السياسية الأخرى في فلسطين. ولا ينفي إصرار مشعل بأن التغير هو في الخطاب السياسي للحركة وليس في جوهر رؤيتها الفكرية والسياسية أن مستوى هذا التغير كبير، ويختلف كثيرا عن ممارسة الحركة في السنوات السابقة، الأمر الذي يعني أننا أمام مرحلة جديدة، تصوغها المتغيرات والتطورات الأخيرة وتفاعل الحركة مع هذه التطورات.
هناك الكثير من الملحوظات والمؤشرات التي يمكن التقاطها من حديث مشعل؛ أبرزها اعتباره أنّ انسحاب إسرائيل إلى حدود الـ67، والقدس واللاجئين والعودة والأسرى أصبحت بمثابة السقف السياسي ومظلة الإجماع الوطني الفلسطيني، وتأكيده أن حماس قادمة إلى الحياة السياسية على قاعدة الشراكة مع المنظمة وليس الوريث أو البديل، وترجيحه لمشاركة الحركة في الانتخابات التشريعية القادمة، وأنها ستعمل على " تجديد الهياكل السياسية الفلسطينية"، وإشارته المتكررة إلى الاتصالات الدائمة والتواصل والتنسيق بينه وبين " أبو مازن" والحكومة المصرية، وأنه لا يوجد "فيتو" من الحركة على الاتصالات مع الإدارة الأميركية.
فهذه المفردات واللغة جديدة تماما على خطاب الحركة وعلى مجمل رؤيتها السياسية. فهي وإن كانت تحرِّم الاقتتال الداخلي فإنها كانت تنظر إلى السلطة الفلسطينية على أنها أداة لإجهاض الانتفاضة وجهاد الشعب الفلسطيني، والطريف أن مشعل قد استخدم ذات المصطلحات التي استخدمها قادة فتح –سابقا- في تبريرهم للدخول في العملية السلمية وهي ما سميت بـ "سياسة الخطوة..خطوة" والمرحلية، والتي كانت الحركة سابقا ترفضها.
التحول الجديد في خطاب الحركة لا يعني أننا أمام استنساخ لتجربة فتح مرة أخرى، فلكل تجربة خصوصيتها، ولكن يعني تماما أن الحركة بصدد تحول كبير يتمثل بالمشاركة في العملية السياسية الجارية اليوم تحت مظلة اتفاق أوسلو – الذي ما زالت الحركة رسميا ترفضه ــ
وأنّ الحركة ستشكل معارضة داخل النظام السياسي الفلسطيني وليس خارجه، وأنها دخلت في لعبة التفاوض من باب آخر، التفاوض مع السلطة ومع مصر والدول العربية لتمرير العملية السياسية، وهو يعني أيضا أن هناك استحقاقات جديدة ستقع على كاهل الحركة، ولكن في المحصلة فإن الخيار الجديد سيسعف الطرف الفلسطيني اليوم كثيرا وهو يدخل في استحقاقات جديدة ناجمة عن احتلال بغداد واغتيال الحريري والضغوط المتزايدة على سورية وإيران، وهو محاولة لترتيب البيت الداخلي الفلسطيني ليكون مؤهلا لمرحلة شديدة الخطورة، لا يمكن مواجهتها بالتناقضات والصراعات بين القوى السياسية المختلفة، فالفوضى السابقة كانت ذات أثار سلبية على الحالة الفلسطينية برمتها، ويأتي التحول في خطاب حماس ليمثل عملية شد عكسي لرئيس الوزراء الفلسطيني كي لا يتورط في الذهاب بعيدا عن الحقوق الوطنية الفلسطينية استجابة للضغوط الخارجية.
المشكلة لا تكمن في الاتجاه الجديد للحركة وهو اتجاه أقرب إلى العقلانية والتعامل مع المتغيرات بواقعية نضالية، ومحاولة للتوفيق بين رؤية الحركة وثوابتها وبين الإكراهات الواقعية، وهو انحناء ذكي أمام العاصفة، لكن هناك فرقا كبيرا في تقدير الأمور بين حماس وبين مشروع "أبو مازن"، ولا يمكن مقاربة هذه الحالة بتجربة حزب الله مع السلطة اللبنانية، إذ لمستُ تأثر مشعل بتلك التجربة، فحزب الله بنى علاقته مع السلطة اللبنانية وصاغ تجربته السياسية وفق معادلة إقليمية ومحلية وتوازنات دقيقة، وهو على العموم كان محمولا على قاعدة تحالفات مع السلطة اللبنانية داخليا وسورية وإيران إقليميا، وهي "حالة سياسية" على وشك الانهيار الآن في ضوء المتغيرات الجديدة، لذلك لا تمثل علاقة حزب الله مع الحكومة اللبنانية نموذجا يمكن استنساخه، فالحكومة الفلسطينية الحالية جاءت على قاعدة مختلفة تماما وبمشروع براغماتي يعطي الأولوية لمعاناة الشعب الفلسطيني اليومية، ومشروعيتها الدولية والإقليمية متعلقة بقدرتها على حماية الأمن وإنهاء المقاومة الفلسطينية، ولا يمتلك "أبو مازن" السماح بازدواجية الخيارات: السلاح والعملية السلمية، بل جاء على قاعدة الخيار الوحيد "إنهاء عسكرة الانتفاضة" وتدمير "البنية التحتية" للمقاومة الفلسطينية. لذلك ستكون التوازنات التي تعمل في سياقها حماس في المرحلة الجديدة وفي ضوء التحول في خطابها مختلفة تماما عن المرحلة السابقة.
العامل الذي يراهن عليه الجميع في ظل تباعد الأجندات والخيارات هو عامل "الوقت"، وكل طرف يحاول كسب معركة الوقت لتحقيق إنجازات على أرض الواقع؛ فحماس ترى أن الوقت يمكن استثماره في إعادة إنتاج قدراتها العسكرية وترتيب أوضاعها التنظيمية، و"استراحة المحارب" –كما وصفها مشعل- بعد السنوات القاسية السابقة، وأيضا فرصة لبناء الرؤية المناسبة للتحولات الجديدة، ودراسة طبيعة العلاقة مع محمود عباس والأطراف الإقليمية العربية، أما محمود عباس فينظر إلى التهدئة الحالية والضغوط المصرية على حماس على أنها فرصة مناسبة لتثبيت أقدامه وإعادة تأهيل السلطة الفلسطينية، والقيام بإصلاحات تؤدي إلى عودة الدعم للسلطة، ومؤتمر لندن يأتي في سياق عودة الدعم للسلطة والمشروعية الدولية، وهو الأمر الذي يأمل عباس أنه سينعكس على شعور الشارع الفلسطيني بالتحسن، وسيعطي عباس مصداقية داخلية من ناحية، ويسحب البساط من تحت أقدام حماس من ناحية أخرى ويلزمها بالتحول إلى حزب سياسي مدني، ويضعف قدرتها على التعبئة الاجتماعية والسياسية، خاصة أن عباس يضغط اليوم ليتحول الدعم الخليجي إلى السلطة بدلا من فصائل المقاومة.
أما إسرائيل فالوقت بالنسبة لها والقيام بعملية المماطلة يساعدها على قبول الفلسطينيين بحلول إسرائيلية خاصة فيما يتعلق بالقدس واللاجئين والحدود، وأي تقدم يحرزه عباس في مواجهة المقاومة يعتبره الإسرائيليون في صالحهم.
ومع تقديرنا لحسابات حماس فإنّ معادلة الواقع والتوازنات الحالية يبدو -في ضوئها- "محمود عباس" هو الرابح الأول في معركة الوقت على الصعيد الداخلي الفلسطيني، وإذا ما تطورت الأمور على هذا النحو ستجد حماس نفسها في ظل الضغوط المستمرة والتدافعات المتتالية تمضي بخطى متسارعة لتتحول إلى حزب سياسي في النظام الفلسطيني الذي تظلله أوسلو والاتفاقات التي تتوصل إليها السلطة الفلسطينية مع الإسرائيليين، ولن يكون أمام الحركة ما دام قبلت بدور الإدارة المصرية للحالة الفلسطينية بالصيغة الحالية غير هذا الطريق، بينما نموذج حزب الله فسيكون بعيد المنال عن هذه المعادلة!، أما إذا فشل مشروع محمود عباس فسيكون أمام الحركة الرجوع إلى الخيار المسلّح لكن وفق شروط أصعب وأقسى من الشروط الحالية والسابقة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد