بعد الحرب الأفغانية لم يعد أسامة بن لادن يملك إلا أشرطة الكاسيت التي تحمل في طياتها لغة الإدانة للسياسة الأميركية والإسرائيلية والتوعد بمزيد من الهجمات ضد الأهداف الأميركية والغربية وحتى العربية الحليفة، لكن كثيرا من تهديداته تذهب أدراج الرياح ولا تجد صدى حقيقيا لها، ومن المكابرة عدم الإقرار بحجم الدمار والإنهاك الذي لحق بتنظيم القاعدة، وما آل إليه حال التنظيم من تفكك وضعف وعجز أمام الضربات الأمنية والملاحقات الاقتصادية والتعتيم الإعلامي، ومن المعروف أن أعضاء مهمين ومفاتيح رئيسة في تنظيم القاعدة إما قتلوا أو اعتقلوا.
ومن المعروف كذلك أنّ الاميركان استطاعوا الحصول على معلومات خطيرة ومهمة للغاية جراء التحقيقات والاستجوابات مع المعتقلين، ولم يسلم عدد كبير من رفقاء ابن لادن والظواهري من القيادات من الاعتقال وفي مقدمتهم سيف العدل (مسؤول الجناح العسكري في التنظيم)، وخالد الشيخ ورمزي بن الشيبة (المسئولان عن التخطيط عن هجمات سبتمبر).
وما نخلص إليه من حالة التنظيم أنه لم يعد قادرا بالفعل -بعد الحرب الأفغانية- على تشكيل خطر حقيقي رئيسي على المصالح الأميركية، وهذه النتيجة قد وصل إليها أيضا عدد كبير من الكتاب والخبراء الاميركان في شؤون الإرهاب.
أمّا الجماعات والتنظيمات الإسلامية المسلحة التي تنتشر هنا وهناك وتحاول القيام بعمليات ضد الأهداف الغربية في عدة مناطق، فهي لا تنتمي مباشرة إلى تنظيم القاعدة، وإنما تتماهى مع خطابه وأهدافه، وقد تبنى التنظيم عددا من هذه الجماعات إعلاميا وسياسيا، على الرغم من أنه لا يوجد أية صلة تنظيمية مباشرة بها، وقد لا يتوافر لديه أية معلومات دقيقة، والمثال البارز على ذلك هو حالة "أبو مصعب الزرقاوي" والذي كان، كما أكد شيخه أبو محمد المقدسي، قد اختلف بشدة مع أسامة بن لادن وحركة طالبان أثناء وجوده في أفغانستان ورفض مبايعة الملا عمر، ولم يقبل بالانضمام إلى القاعدة، وقد شكل جماعته المعروفة بـ"التوحيد والجهاد" إلى أن أصبحت فاعلا رئيسا ومؤثرا في الساحة العراقية.
ولم ينضم الزرقاوي إلى القاعدة إلا في الآونة الأخيرة، لما بدأت أخبار الخلاف بينهما تتسرب، وخشي أن يؤثر ذلك على مشروعية الجماعة وموالاة أعضائها له خاصة قبيل "اجتياح الفلوجة" الأخير، في ظل ظروف شديدة الصعوبة، قرر مبايعة ابن لادن وإعلان انضمام جماعة التوحيد والجهاد إلى القاعدة، الأمر الذي نتج عنه اعتبار جماعته بمثابة "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"، وفي حقيقة الأمر فإن ابن لادن لا يملك أية سلطة عملية سوى "السلطة الأدبية" على الزرقاوي، فالفاعل الحقيقي اليوم في الصراع مع الأميركان هو الزرقاوي، في حين يضرب ابن لادن بسيفه.
وتبدو رسالة "ابن لادن" الجوابية، والتي اعتبر فيها الزرقاوي أميرا للجماعة في العراق مقاربة شديدة الشبه بما عرف في الخبرة الإسلامية بـ "إمارة التغلب" حيث كان الخليفة معزولا من الناحية العملية، لا يمتلك أية صلاحيات حقيقية بينما "أمير العسكر" هو القائد الحقيقي والذي يسيطر على الأمور؛ في حين يعلن الولاء الرسمي الاسمي للخليفة، وما يحدث اليوم بالفعل أنّ ابن لادن لا يملك سوى المباركة للجماعات المختلفة التي تظهر هنا وهناك وتتبنى رؤيته، بينما تقبل هي بالولاء الرسمي له ومبايعته على الإمارة المعنوية.
إن ما يمكن التقاطه بالفعل من رسالة ابن لادن الجوابية أن جماعات القاعدة ليست تنظيما بالمعنى الحركي والاصطلاحي للكلمة، وإنما هي حالة تعبر عن استجابة للأوضاع السائدة في المنطقة، وهي اتجاهٌ يفرز تنظيمات وجماعات هنا وهناك، ومن الممكن جدا إذا اختفت مجموعة أن تظهر مجموعة أخرى، وأن تشكل حالة سياسية أو أمنية طالما هناك قصة كبيرة في العالم الإسلامي.
بقلم:محمد أبو رمان.
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد