في معرض الأسئلة والأجوبة، بعد محاضرته في كلية الدفاع (أول من أمس)، قال رئيس الوزراء د. عبدالله النسور، إنّ "مشكلتنا في الأردن اقتصادية فقط، ولا توجد لدينا مشكلة سياسية". وهي جملة، وإن كانت مختصرة وموجزة، إلاّ أنّها تلخّص بصورة كبيرة القناعة الدارجة في أروقة ومراكز القرار تجاه مشروع الإصلاح السياسي عموماً، وتتمثّل في أنّ جوهر المشكلة اقتصادي، ولا توجد هناك مشكلة سياسية أصلاً!
هذه الجملة ليست جديدة، وسبق أن تردّدت، صراحةً أو ضمناً، من سياسيين واقتصاديين، قبل رئيس الوزراء الحالي. لكنها تأتي اليوم على لسان د. النسور، الذي كان من أكبر المطالبين بالإصلاح السياسي، وممن يدافعون عن ضرورته وأهميته، قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، فسبحان مغيّر الأحوال!

 

المهم في تصريح النسور أنه يكشف عن حجم تغلغل وهيمنة هذه القناعة في عملية صناعة القرار، وتقوم على أنّ الاهتمام الحقيقي يجب أن ينصب على معالجة الأزمات المالية والاقتصادية من جهة، وأنّ ما تمّ "إنجازه" في مجال الإصلاح السياسي هو بالقدر الكافي، وأنّ مزيداً من الإصلاحات السياسية، الجوهرية، لن تكون مفيدة ولا مطلوبة خلال المرحلة المقبلة.

 

أخطر ما في هذه القناعة، التي أصبحت تتردد بدرجة أكثر وضوحاً خلال الفترة الماضية، أنّها تستبطن، أولاً، "حالة الإنكار" للأزمة السياسية في البلاد، وكأنّ الأمور "قمرة وربيع"؛ وأنّ ما يحدث من أزمات وتوترات هو نتاج العامل الاقتصادي-الاجتماعي فقط، من دون أن يتم الالتفات إلى أنّ السبب الرئيس والأكثر أهمية في مضاعفة النتائج السيئة والتداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية يكمن في فجوة الثقة والمصداقية المتنامية بين الحكومات والشارع الأردني، خلال السنوات الماضية، وهي الأزمة التي ولّدت حالة من "الاحتقان المزمن"!
ثمّة رمد حقيقي في عيون المسؤولين؛ فهم لا يستطيعون رؤية حجم القلق الكبير لدى المواطنين، وهم يراقبون مظاهر التراجع الكبير في المركز الأخلاقي للدولة، فتنتشر مظاهر العنف الجامعي والمجتمعي، وحالة الانهيار في التعليم، وتكرار حوادث الاعتداء على المدرّسين والأطباء.. فأحد أكبر الأخطاء أنّنا ننظر إلى هذه الظواهر والحالات بصورة منفصلة، كلّ على حدة، بينما تمنحنا النظرة الكليّة للمشهد قدرة على استنطاق السياق العام الذي يحدّد لنا الأسباب والنتائج، ويمنحنا تصوّراً أعمق لخطورة هذا المسار المتدهور والمتدحرج.

 

هل هذا المسار محكوم بالأزمة الاقتصادية فقط، أم بتزاوجها مع الأزمة السياسية؟ أزعم أنّ الاختلالات السياسية أخطر من الاقتصادية. فإذا كان هناك مجلس نواب على قدر المهمة والمسؤولية، ويمتلك الحاسّة السياسية والوطنية، ويعكس أوزان القوى السياسية في المعارضة وفي الحكومة، وفي الوقت نفسه وسائل الرقابة والمساءلة فاعلة، فإنّ الشارع لن يلقي اللوم على "الدولة" ويحمّلها المسؤولية، ما ينجم عنه أزمة حقيقية في جوهر هذه العلاقة!

 

نعم، هناك أزمة اقتصادية كبيرة تضغط على الحكومة والمواطنين على السواء، لكن حجم الأزمة السياسية وخطورتها أكبر وأهم. ولو نظرنا بعمق إلى المشكلات والأزمات المتتالية، لوجدنا أنّها صناعة سياسية بامتياز؛ ولو نظرنا إلى مصدر الأمن والخطر، في الوقت نفسه، لوجدنا أنّه الجبهة الداخلية؛ ولو فكّرنا في عوامل تقوية أو إضعاف الجبهة الداخلية، بالدرجة الرئيسة، فسنجد أنّ الجواب هو مدى التقدم أو التراجع في مشروع الإصلاح السياسي والاقتصادي!

 

إنكار الرئيس عبدالله النسور للمشكلة السياسية ليس جملة عابرة. وقبل المضي في أي خطوة في الإصلاح السياسي لا بد من تغيير هذه القناعة الخاطئة، باعتبار ذلك شرط النجاح في إيجاد الحلول لعملية تاريخية في التطوير والإصلاح والمضي إلى الأمام.

 

بقلم: محمد أبو رمان.   

المراجع

alghad.com

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد