لم يخطر على بال أكبر القساوسة عمراً وقدراً ومكانةً في  حماه !, أمضى حياته يزرع الخير والمحبة والسلام , أنه سيكون  ضحية تهمة لا تخطر له على بال , أنت " إخوان مسلمين" !. صفعه فيها رعاع  رفعت أسد  من سرايا الدفاع والصرع والصراع , لم يشفع له حرمة الكنيسة ورمزية الصليب المعلق على صدره وطغت الهمجية وألغت كل قيمة وحرمة ونظام ... تسربل ذوي البدلات المبرقعة من عشرات العربات المصفحة , افترقوا برتلين أحدهما باتجاه الجامع والآخر باتجاه الكنيسة, فتكوا بالمصلين وبحرمة الجامع بشكل جماعي عشوائي لامعنى له سوى الانتقام !, منعهم القس من الدخول ودار سجالاً وجدالاً ,صرخ أحد الجنود بوجه القس ,هويتك , مسكها  بالمقلوب وصاح بأعلى صوته بلكنة مزعجة إنه " إخوان " سيدي , اتصل بدوره في غرفة عمليات القيادة العامة للجبهة , وقال للجنود على الفور انتفوا شعر لحيته شعرة شعرة , واقلعوا أظافر يديه ورجليه واكسروا الهلال والصليب إنه كذاب !,واقطعوا لسانه وأطرافه , وارموه  نكرة على ضفة العاصي , واتركوه تأكله الكلاب والغربان! .
ولم يخطر على بال الإنس والجن أن ذلك الدولاب الخشبي المتوشح بلون التاريخ والمتحرك مع الحياة, والشاهد على عصور وممالك وأحزان وأفراح وثورات وذاكرة مدينة وأساطير سلاطين , سوف تكسره يد , ويغتاله سفاح , ويوقف حركته وزمنه مارق قادم من القاع الذي ضاق حملاً بما فيه ! أهي لحظة زاوج متعة هجين بين العنف والطغيان والانحطاط في لحظة جهنمية أنجبت هذا التطرف اللقيط الذي حطم تاريخ وطن بأكمله , واغتال المحبة والعيش المشترك وأعاد قمقم الكراهية والتشقق ؟! أم هي لحظة فقدت فيها الأشياء نواميسها والبشر توازنهم وإنسانيتهم وبعدهم الاجتماعي, وانهارت القيم الإنسانية إلى الحضيض ؟! وسيق الجميع مرغمين بالبسطارالبلدي إلى أتون مرحلة كارثية بكل ما للكلمة من دلالات !.
حماه في شباط 1982 هي أفظع من "محرقة"  وأفجع من "محاكم تفتيش"  , وأكثر هولاً وترويعاً من كل وصف ومن كل تصور لعنف , ومن كل صور المآسي التي تختزنها ذاكرة البشرية  المؤلمة , واليوم في عام 2008 ,أي بعد أكثر من ربع قرن على المحرقة ,لازالت ضحاياها في حفر السجون منسيين ومفقودين ومغيبين ومشردين أحياءً وأمواتاً , والجيل الذي عاصرها لازال أسيراً في أتونها , وكل أربعينية وأربعيني هم أبناء المأساة يجرون معهم أجيالاً معذبة خلفتها وراءها, يعيشها صامتاً كل على طريقته في ظل نظام يفرض على الفرد الخروج من إنسانيته , ويجبر الأحياء على نسيان الضحية والجريمة والجلاد! وكل فرد فوق الأربعين هو خلاصة محنة إنسانية زاحفة على مساحة وطن من الألم والحزن والصمت , في حقيقة الأمر , كل أهل هذه المدينة الصابرة وبحكم هول الجريمة وما تلاها من إهمال وتهميش وتشريد وانتهاك الحقوق وإغلاق نوافذ الأمل والحياة , لم يبق لهم سوى استمرار الضغط على الجراح  رغم نزفه ! ورغم أن الزمن استطال ,والجلاد مازال حراً يضحك ويرقص ويعربد على أشلاء ضحاياه!.
قد تكون عواقب الجريمة أبشع منها في حال ترك الضحية في ظلمها وعدم مد يد العون لها, وهذا ما حصل لتلك المدينة التي أنصفها التاريخ ولم ينصفها حافظ أسد ورفعت أسد ورتل من المجرمين المعروفين في تاريخ سورية الحديث , وبكل أسف مع رهط من "المثقفين"  اللذين أغمضوا عيونهم وأصموا آذانهم وخدروا مشاعرهم وتقاعدت أقلامهم أمام هول الجريمة المروعة وتركوا ضحاياها "لوطنية" الجلاد ! ورغم أننا حاولنا طويلاً وعلى امتداد المأساة في وطننا وأهلنا وقلوبنا وعقولنا وذاكرتنا وأحلامنا ,عملنا على إبعاد الجغرافيا وعقد التاريخ وتحييد ألوانها , ودفعنا ثمن ذلك شهداء ودم ودموع وتشرد وملحقات عذاب وطني وإنساني مريرة لاحصر لها! وحاولنا حصر مقدماتها وفاعليها ونتائجها في دائرة السياسة تجريداً لها من شباك النظام وسهامه السامة , وعملنا ما في وسعنا على عزلها عن إطارها الأهلي .
وقلناها واليوم نكررها بملء الفم , فعلنا ذلك ليس جبناً ولا خوفاً ولا جهلاً ولا نسياناً ولا تبرعاً مجانياً, ولا هديةً مجبولة بالدم للطغاة معروفي الأصل والفصل والفعل ! بل محاولةً صادقة ومسؤولة لتفريغ شحنات الظلم والتهميش والكراهية في خزان التسامح والتعايش المشترك , والحفاظ على لآلئ تاريخية متماسكة ألفناها وعشناها , ولمنع  تراكم نتائج الجريمة وانفجارها في شكل ثأر !.
ثأر ,أراده الجبناء أن يكون هو أول نتائجها, يدفع سورية من جديد وفي أي لحظة إلى داحس  والغبراء  بدون أصول وبدون خيول وبدون سباق وبدون خلاف , فقط تنفيذاً لأوامر جلاداً أكبر وتجاوباً مع نزعة غريزية بهيمية بالتمثيل بأبناء الوطن الأحياء والأموات والعبث بتاريخ سورية ,الذي تقول كل الروايات أنه بداية التاريخ المدني البشري , المدني بما يعنيه من احترام للحرية وللحقوق واستعداد للتعايش وهجر العصبية والعبودية كعقلية ومعرفة وأعراف وتقاليد, لكن المفارقة أن المدنية وقعت في يد الجهل ! . هنا بعض مظاهر الجريمة ومقدماتها , والجهل  قبل أن" يطعج البعض أنفه ويقطب حواجبه ويشفتر " ويفسر وينتفخ حرصاً على  الوحدة الوطنية !, نقول الجهل بما هو علاقة بدائية بين الإنسان ومحيطه الاجتماعي , معاكسة لتطور المدنية والتاريخ , وعليه لا نحمَل الكلمة ولا نُسقط عليها أي مضمون أهلي أو اجتماعي أو إنساني , وليفهم الأمور كل حسب ثقافته وجهله ومدنيته وعلاقته مع أبناء وطنه!.
والحال الذي نراه , يشي أن ما يجري في سورية اليوم من لعبة  خطيرة تدور فصولها بين ظالم ومظلوم بظل نظام فردي مقروء فعله وفاعله ومفعوله,هو فعل لاحق مرتبط بسابق والاثنين معاً يحددان بداية ونهاية ويرسمان وجهاً قبيحاً لحالة شاذة حاضرة,أصبحت مخيفةً بمرور الوقت وتراكم القمع والكوارث والفقر وضيق الأفق أمام عامة الشعب ,وحاضر حماه وسورية لا تستوعبه الكلمات ولا تعكسه شعارات الوهم والكذب والخداع , باختصار إن ما تعيشه سورية من تناقضات تتركز في شكل أزمة نظام وضمير وحرية وخبز وكرامة,أزمة ذاكرة متعبة محاصرة أفقدها النظام محتواها ورماها عارية في حفر الحاضر ليشبعها بهدلة وتشويه وضياع في أزقة وطن ,أصبح بحجم حفرة وزنزانة ورصيف وحاوية ومحكمة أمن دولة..!.
وعندما تنحدر مظاهر الحاضر إلى اعتقال فداء حوراني بما تمثله من رمزية وطنية واجتماعية وإنسانية وتجرجر من قبل رعاع مكبلة, وبما ظهرت فيه من شجاعة مصدرها قوة الارتباط بوطن وشعب وتاريخ, وما تشير إليه من موقف وطني معروف حتى جذوره ,وحرص على السلم الأهلي والتماسك الاجتماعي في ظروف داخلية وعربية خطيرة ومفتوحة على كل الاحتمالات ,هنا تدخل اللعبة دائرة النار الملتهبة التي سوف تحرق الجميع وتلتقي مع حرائق المخططات الجهنمية لسوق سورية إلى حلبة التطرف والكراهية وحروب البسوس , هنا بالضبط ينبغي القيام بوقفة تأمل وتفكير بما حصل وما سيحصل ,إذا استمر الجميع بمراقبة المشهد بعجز وخوف غير مبررين ,وقفة صريحة لحسم الجدل حول الجلاد والضحية ووقف محاولة تمييع فعل الجلاد بما يشبه سكب الزيت على النار من جديد !.
وقفة تدين وتستنكر وتقف بوجه كل دعاة القمع والتطرف والعنف والكراهية أياً كانوا ,قبل فوات الأوان وفلتان الأمور وتكرار مشهد الانهيار والتمزق من جديد ! وقفة مع حماه  بضحاياها  ومفقوديها  ومعذبيها  ومشرديها  ومعتقليها وتضميد جراحها النازف بصمت , وتطويق نتائجها في سياج العدل ورفع الظلم وإعادة الاعتبار للأحياء والأموات قبل فوات الأوان!.
وقفة تحتاج إلى القليل من الكلام والكثير من الفعل , والكثير الكثير من العقل والعدل والمحبة والإصرار على احترام التعايش لا على الكراهية , على الوحدة لا على التشقق والتمزق , على قيم العدل لا على الظلم , على المساواة لا على التمييز , على الحياة لا على الموت !.
وقفة شجاعة تحتاجها سورية اليوم من جميع أبنائها ..." فليس الضلال هو الخطأ , بل إن الضلال هو الجبن "... والجبن هو سبب كل محنة وهزيمة......ومحنة حماه وسورية في بعض ملامحها جبن وانهيار...والشجاعة هي مصدر كل إنتصار...

المراجع

ahewar.org

التصانيف

أدب  مجتمع