إن مما يثيـر عجبي، ويبعث على استغـرابي، ويرفع ضغـطي - وهو واحـد من أشياء كثيرة ترفع الضغـط في زماننا هذا- : كيف لرجـل أن يجري وراء كـرة، يركلها، ثم يجري وراءها ثانية فيركلها، فيجري ثالثةً وهلمّ جرّا وهلم جرجرة.
 فمما أعرفه أن تعريف الكرة هو: جسم مجوف، كـرويّ الشكل، مصنوع من المطاط والبلاستيك ومواد أخرى، ومما أعلمه وأفهمه كذلك، أن تعريف الرجل هو: كائن بشري، على اثنتين يسير، للأرض يعمـر، على النساء قـوّام، وللمجتمع خـدّام، فيه روح كبيـرة، وله بصر وبصيرة، يحمل في أعـلى جسده كرة -أيضًا- إلا أنها غير مجوفة، فهي محشوة بآلة عظيمة، وتركيبة معجزة، تسمى دماغ!
 والدماغ لها وظائف عظيمة، منها التفكير والحفظ، ومنها إعطاء الأوامر للقدمين ـ ولسائر الأطراف ـ لتحريكهما !
 إذاً فلا ضير، كرة تعمل من أجل كرة، وهل هناك ما هو أعظم من هذا وأشد تعاونًا وإخلاصًا!
 قد تثور ثائرة من يعشقون هذه -أعني الكرة- وبالتأكيد أعني تلك التي تُركل لا التي تُحمل على الكتفين، إلا أنني لا أقول إلا ما أراه حقًّا، والله وأعلم.
 فكيف لهذا السيد – أي الرجل- أن يسمح لنفسه بالجري وراء كرة؟!
 لا نختلف، هي حركات رياضية، تقوّي البدن، تنشط الذهن، وتُعملُ العقل. وأظن ـ أيضًا ـ أننا لا نختلف في كونها رياضة للرِّجل-بكسر الشدة على الراء- قد تكسر، وللعنق قد تلوي، وللدماغ ترج، وللكتف تخلع، وللوقت تقتل، والباقي أنتم به أدرى.
 لا ننكر أن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- كان يمارس الرياضة ومنها الجري، فكان أحيانًا يسابق الصغار، وأحيانًا أخرى يسابق عائشة -رضي الله عنها- لكن هذا كان في وقت معقول، ولمدة معقولة، ولغاية معلومة. وفي الإسلام نحن مسئولون عن حفظ الأبدان، والرياضة إحدى طرقها، ولكن الذي يجري لمدة خمس وأربعين دقيقة تفصلها عن مثلها ربع ساعة، هذا إن لم يمتد الأمر لأشواط إضافية ومن بعدها ركلات جزاء، ثم يخرج من المباراة بعاهة وقتية أو مستديمة، فلا أظنه أنه يمارس رياضة!
 مفارقة عجيبة، من رجال عجيبين، في زمن عجيب.
 والأدهى والأمر هو خروج الفريقين في أغلب الأحيان بدموع، فالأول تغلبه دموع الفرح، والآخر تغلبه دموع الحزن، وقد تودي الصدمة بحياة أشخاص!
 والأكثر مرارةً من هذا أنّ الأمر لا يحدث في فترات متباعدة، فلا تنتهي مباريات كأس العالم حتى تعود لتبدأ ضمن كؤوس لأممٍ كثيرةٍ، وتصفيات ودوريات لفرقٍ عديدةٍ.
 والقنوات -ولله الحمد- لا تألو جهدًا ، فكانت هناك العديد من القنوات الرياضية، بل و(القدمية) المتخصصة، والعديد منها مشفّر، فالتفرج على الرياضة والرياضيين شيء باهض! أما أن نرى قنوات متخصصة بأمراض اجتماعية أو دينية توازي تلك، فأظنه كلامًا فارغًا!
 ثم لا ننسى الأحبة الذين لا يفوّتون على أنفسهم المتعة، فيذهبون ألوفًا مؤلفة، بطوابير محتشدة، يهزون الأرض هزاً، و يدكون الجبال دكًّا، كجيش في غمرة المعركة، يرابطون على ثغور الملاعب قبل بدء المعركة بساعات، ليتفرجوا على رجال يركلون الكرة، ويشجعوهم على عملهم ذاك، وبعد انقضاء المعركة، تعود الألوف المؤلفة إلى ثكناتها، لتشاهد معارك أخرى على شاشات تلفازاتها. ويعود الرجال اللاعبون كذلك بألوف مؤلفة، ولكن من الدولارات، هذا لأنهم خدموا الأمة، فأسعدوا الخليقة، ونفّسوا عنهم الكربة، وأزاحوا عنهم الغمة!
 وإني لأتساءل كثيرًا : بأي وجهٍ بطولي يعود هذا (الرجل) إلى بيته بعد صولة وجولة كان سلاحه فيها الكرة؟ كيف يستقبله ابنه وهو مكسور الرِّجل أو نازف الرأس خلال جريه وراء كرة؟!
 ثم أقارنه بوجه ذاك الطفل الذي يستقبل أباه بعد أن عاد من جولة وصولة مع بني صهيون نازف الرأس أو مجروح الرِّجل!!!
 ما هو شعور هذا الطفل وذاك نحو تلك القدوة، كيف تكون نفسية الطفل بعدها؟ ما مدى ثورة حب الانتقام لقطرة الدم عند كليهما؟ لأي درجةٍ يكون هذان الطفلان فخورين بما حصل؟
 وأعود لأسأل نفسي، هل ما يروى من أن الكرة أسلوب فذ لملأ وقت الشباب صحيح؟ هل هذا ينطبق أيضًا على الملايين التي تكتفي بالمشاهدة؟ أظنها حجة واهية، و"فبركة" مغمورة.
 ولا أظن كثيرًا من اللاعبين قد يلبون نداء الصلاة إن كانوا في الملاعب، والحال نفسه للجمهور المناضل على المدرجات أو في المنازل، فأي ملء بمفيد نريد لهذا الشباب على حساب الفريضة، وإن لم يكن على حسابها، فهل يا ترى ملأنا الكوب الفارغة بالماء أم بالهواء؟
 هل يا ترى يجدر بأمـة كانت أمـة الإبـداع يومًا، أمة الدين والخُـلق والعلـم والأدب، والفروسيـة والشجاعة، رائدة الفيـزياء والكيميـاء والفلسفة والرياضة "العقلية"، أن تسعى اليوم وبعد أن أفلت منها ما سبقت به، هل يجدر بها أن تسعى لإحراز قصب السبق في كرة القدم!
 في النهاية، ناشدتكم الله لا تمنحوني الكراهية، فما قلت سوى ما أراه الحقيقة، وما أردت سوى النصيحة، ومن كان مدمنا على لعب الكرة، فليلعب باتزان ورويّة، وليلعب بقدر ما أحب النصيحة، والسلام على ذوي القريحة.

المراجع

nashiri.net

التصانيف

أدب  مجتمع