هنالك مدرسة او وجهة نظر لدى بعض العاملين في الحقل العام تؤمن بأن انتهاج الدولة للنهج الاقتصادي الحر لا يجب ان يجعلها تتخلى عن واجبها تجاه الناس وبخاصة الفقراء، وبعض هؤلاء يعبرون عن هذا الموقف عبر زيادة مساحة المساعدات واشكالها سواء بتعظيم دور وموازنة صندوق المعونة، او تحويل المساعدات العينية الى عمل مؤسسي يتم ترويجه وتحويله الى موسم فرح.
وبعض المؤمنين بهذا الخيار يرون ان الافضل ان تتبنى الدولة توفير فرص عمل، ولو بسيطة، تكون اكثر كرامة للناس من مد اليد لـ"كرتونة" المساعدات او المعونة الشهرية. وفكرة العمل هذه لها اكثر من شكل، احدها تم تجريبه مؤقتاً في حكومة المهندس علي ابو الراغب عندما تم تخصيص عدة ملايين لإنفاقها على رواتب لأعمال مؤقتة في المحافظات دامت عدة اشهر وانتهت، لكنها كانت تمريناً لأمر افضل كان يمكن التفكير به.
ولعل الشكل الأهم حتى الآن هو "الشركة الوطنية للتدريب"، التي تتولاها القوات المسلحة بالتعاون مع وزارات ومؤسسات القطاع الخاص، وهي فكرة تحمل نوعاً من احتضان الدولة لشبابها، لكن ليس عبر التوظيف فقط، بل التأهيل وفتح الابواب لفرص عمل في القطاع الخاص.
هنالك فئات ممن تولوا مواقع تنفيذية يمارسون قناعاتهم بدور الدولة عبر فتح ابواب التوظيف لمن يسمون الفئة الرابعة او عمال المياومة، ووجهة النظر هذه تعبر عن تقدير لظروف الناس والرغبة في تأمين الحد الادنى من متطلبات الحياة ليس عبر معونة او صناديق مساعدات، بل من خلال عمل سواء في البلديات او بعض الوزارات والمؤسسات. وهؤلاء من وجهة نظر مدرسة "الارقام" عبء على الموازنة وخارج جدول التشكيلات، لكنهم في الحقيقة فئة من الاردنيين يبحثون عن عمل ولقمة خبر، فقبلوا بهذه الوظائف التي تكون احياناً اكثر صعوبة من القطاع الخاص.
طبعاً جزء من هذه التعيينات كانت عن طريق النواب والمعارف و"الواسطة"، لكنها في معظمها ليست واسطة بالمفهوم السلبي، فالنائب يتوسط لتأمين مصدر دخل لعائلة، وهذه واسطة الفقراء التي يمكن ان تكون شكلاً من اشكال تعويض آثار السياسة الاقتصادية التي تركت ضحايا من الطبقتين الوسطى والفقيرة.
هنالك من يرفض فكرة احتضان الدولة لمن لم يستطع القطاع الخاص تأمين لقمة العيش لهم، وهؤلاء هم من المؤمنين بطروحات ومطالب المؤسسات النقدية والمالية الدولية. لكن عند كل منعطف سياسي يجدون انفسهم مضطرين للبحث عن وسائل سياسية لاحتواء آثار السياسات الاقتصادية، ولهذا يأتي الانفاق ربما بذات المبالغ التي تنفق على التشغيل، لكنها على شكل اعمال انسانية ومساعدات وتبرعات. الفرق ان سياسة المساعدات والمعونات لها ثمن اجتماعي وقيمي بينما سياسة التشغيل واحتواء الدولة لمواطنيها سواء في الوظائف الصغيرة او التجنيد في الدولة هذه السياسة تحفظ للمجتمع منظومة قيم ايجابية.
لو كانت حركة انسحاب الدولة من التوظيف بذات سرعة نمو القطاع الخاص لكان المسار طبيعياً، لكن سرعة انسحاب الدولة تساوي فقط سرعة وكثرة الحديث عن دور القطاع الخاص. ولهذا ستجد فئات من الاردنيين، وبخاصة في المحافظات، خارج العاصمة نفسها بلا فرص عمل في القطاع الخاص، وستجد نفسها ايضاً يتيمة من ناحية "الاب"!
بعض منظري السياسة والاقتصاد في الحكومات ومواقع المسؤولية يريدون ان تسحب الدولة رعايتها وواجبها مقابل ما يقولونه عن دور القطاع الخاص، اي تثبيت واقع صعب على الناس مقابل تنظير وارقام في الهواء لم تترجم الى واقع.
منذ سنوات والتحدي ان تصل حكوماتنا الى مرحلة تقلص فيها اشكال المعونات المؤسسية، بما فيها موازنة المعونة الوطنية، لكن ما يجري هو العكس. وما دامت السياسات الاقتصادية تحمل نوعاً من العجز، فالأولى ان نحول انفاق عشرات الملايين من المساعدات والمعونات إلى رواتب وميزانيات للتشغيل داخل الدولة، فهذا على الاقل يحفظ كرامة الناس.
ربما يكون اقتراح معقول ان يتم تقليص دور صندوق المعونة الا للفئات التي لا تجد القدرة على العمل، وإلغاء كل اشكال الصدقات لمصلحة مشاريع عمل ووظائف صغيرة داخل الدولة حتى يتوفر بديل لها في القطاع الخاص.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   سميح المعايطة