سُورَة هُود : مَكِّيَّة إِلَّا الْآيَات 114 - 17 - 12 فَمَدَنِيَّة وَآيَاتهَا 123 نَزَلَتْ بَعْد يُونُس

مَكِّيَّة فِي قَوْل الْحَسَن وَعِكْرِمَة وَعَطَاء وَجَابِر . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة :إلا الآية الرابعة عشرة ; وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : " وَأَقِمْ الصلاة طَرَفَيْ النَّهَار. وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ قَالَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : يَا رَسُول اللَّه قَدْ شِبْت. قَالَ :" شَيَّبَتْنِي هُود وَالْوَاقِعَة وَالْمُرْسلاتُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْس كُوِّرَتْ ". وفي حديث آخر رواه سفيان بن وكيع : قَالُوا يَا رَسُول اللَّه نَرَاك قَدْ شِبْت ! قَالَ : ( شَيَّبَتْنِي هُود وَأَخَوَاتهَا ) .
فَالْفَزَع يُورِث الشَّيْب وَذَلِكَ أَنَّ الْفَزَع يُذْهِل النَّفْس فَيُنَشِّف رُطُوبَة الْجَسَد , وَتَحْت كُلّ شَعْرَة مَنْبَع , وَمِنْهُ يَعْرَق , فَإِذَا اِنْتَشَفَ الْفَزَع رُطُوبَته يَبِسَتْ الْمَنَابِع فَيَبِسَ الشَّعْر وَابْيَضَّ ; كَمَا تَرَى الزَّرْع الأخْضَر بِسِقَائِهِ , فَإِذَا ذَهَبَ سِقَاؤُهُ يَبِسَ فَابْيَضَّ ;
وَإِنَّمَا يَبْيَضّ شَعْر الشَّيْخ لِذَهَابِ رُطُوبَته وَيُبْس جِلْده , فَالنَّفْس تَذْهَل بِوَعِيدِ اللَّه , وَأَهْوَال مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَر عَنْ اللَّه , فَتَذْبُل , وَيُنَشِّف مَاءَهَا ذَلِكَ الْوَعِيدُ وَالْهَوْل الَّذِي جَاءَ بِهِ ; فَمِنْهُ تَشِيب . وَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " يَوْمًا يَجْعَل الْوِلْدَان شِيبًا " [ الْمُزَّمِّل : 17 ] فَإِنَّمَا شَابُوا مِنْ الْفَزَع . وَأَمَّا سُورَة " هُود " وقد شيبت هودٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل بالأمم من عَاجِل بَأْس اللَّه تَعَالَى , فَأَهْل الْيَقِين إِذَا تَلَوْهَا تَرَاءَى عَلَى قُلُوبهمْ مِنْ مُلْكه وَسُلْطَانه قوة ُبطشه بِأَعْدَائِهِ , فَلَوْ مَاتُوا مِنْ الْفَزَع لَحَقَّ لَهُمْ ; وَلَكِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَلْطُف بِهِمْ. وَأَمَّا أَخَوَاتهَا فَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ السُّوَر ; مِثْل " الْحَاقَّة " و " الْمَعَارِج : " و " التَّكْوِير " و " الْقَارِعَة ", فَفِي تلاوة هَذِهِ السُّوَر مَا يَكْشِف لِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ سُلْطَانه وَبَطْشه فَتَذْهَل مِنْهُ النُّفُوس , وَتَشِيب مِنْهُ الرُّءُوس .
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الَّذِي شَيَّبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُورَة " هُود " قَوْله في الآية الثانية عشرة منها: " فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت " فهو أمر بالاستقامة والثبات على ذلك ، ولا يصبر على الالستقامة إلا عظماء الرجال .
- وانظر معي إلى الأسلوب التربوي الأول في هذه السورة الذي نجده في الآية الأولى : التعظيم للقرآن ، فهو " كتاب " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، نزل به الروح الأمين بأمر الله تعالى على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قد " أحكمت آياته " كلّها ، فلا خلل فيها ولا باطل ، نظمت نظماً محكماً في اللوح المحفوظ ، فلا تناقض فيها ولا خطل ، جمعت الأمر والنهي ، فأحكمت المطلوب ، " ثم فُصّلت " بما فيها من الدلائل على وحدانية الله تعالى والنبوة والبعث وما إلى ذلك من الإيمانيات ، وذكرت الوعد والوعيد والثواب والعقاب . فليكن القرآن عظيماً في قلوبنا ، عظيماً في نفوسنا ، عظيماً في أعمالنا فنلتزمه فهماً وعملاً ، فنعظم عند الله تعالى وعند الناس كما كان السلف الصالح رضوان الله عليهم .
- أما الأسلوب الثاني فهو التسلسل المنطقي ، فالإحكام والترتيب والتنظيم أولاً ، والتفصيل والتوضيح والبيان ثانياً . .. ولا يكون العمل سليماً وناجحاً إلا بهذين الأمرين .
فما المطلوب بعد ذلك يا رب؟ إنه
إنه : 1- عبادة الله وحده فهو الخالق البارئ المستحق للعبادة .
2- الإيمان بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، فهو البشير النذير.
3- استغفار الله والتوبة إليه والعبودية له وحده .
4- الاعتقاد بيوم القيامة ، والعمل للقاء الله تعالى ، فلا بد منه " إلى الله مرجعكم "
فإذا تم هذا كان العيشُ الهانئ في الدنيا " يمتعْكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمّى " والتكريم في الآخرة " ويُؤتِ كل ذي فضل فضله " وإلا كان التهديد والوعيد بعذاب الآخرة الدائم " وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير " . وأسلوب الترغيب والترهيب واضح في تفاعل النفس الإنسانية الواعية مع الأمور . وهذا هو الأسلوب الثالث الذي يدق على الوتر الحساس في الإنسان ويعيش معه في كل آن ... فبعد الحياة حساب ، فإما ثواب وإما عقاب .وما يلتزم الصراط السويّ إلا ذوو الألباب.
- الإنكار والصلف والعتو سبيل الجاهلين الذي يظلمون أنفسهم أولاً وآخراً ،
1- إنهم ينكرون البعث ويسخرون منه ابتداءً " ولئن قلتَ : إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين ! "
2- يتحدّون بكبرياء كل تهديد ووعيد وينكرون العذاب الذي ينتظرهم هازئين " ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ، ليقولنّ : ما يحبسه!! " .
3- الإنسان سريع اليأس إن لم ينل بغيته ، أو نزعت منه النعمة . والبعدُ عن الصبر مقتل يقع فيه الكثرة الكاثرة – فالإنسان خلق من عجل – ولا بد من التحلي بالصبر وعمل الصالحات كي يزداد المؤمن إيماناً ، ويتجاوز ضعفه . وعلى رأس هذه السمات : اللجوء إلى الله والاتكال عليه :" ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إن ليؤوس كفور ، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن : ذهب السيئات عني ، إنه لفرح فخور" فتراه ينسى مشاقه ويرفع رأسه خيلاء ، وينسب الفضل لنفسه " لفرحٌ فخور " وينسى الخالق المنعم ، ويتجبر على أمثاله من البشر ، وكأنه من طينة أخرى غير طينتهم . " إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ، أولئك لهم مغفرة وأجر كبير"... إن الإنسان العاقل من يعرف قدر نفسه، ويأرز إلى الحق، ويقر به . وهذا هو التأمل الرابع الذي ينبغي أن نقف عند نتائجه وآثاره وقوف المتأملين المتدبرين ليكونوا من المفلحين . إن هؤلاء الصابرين العاملين خيراً نماذجُ راقية من البشر ، وجودهم نادر ندرة َالمعدن النفيس بين المعادن الأخرى
- أما التامل الخامس فوقفة متأنية أمام الآية الكريمة " فلعلك تاركٌ بعضَ ما يوحى إليك ، وضائق به صدرك أن يقولوا : لولا أُنزل عليه كنز أو جاء معه ملَك! إنما أنت نذير ، والله على كل شيء وكيل " .. ترينا الداعية يجد في سبيل دعوته الكثير من المتاعب ، والكثير من السخرية والاستهزاء ، والكثير من المثبطات فهل تفتر همته ويتكاسل عن أدائها ؟! وهل يتنازل عن بعض ما فيها ويتخفف منه لإرضاء أهل الأمزجة والأهواء ؟! وهل تضيق نفسه فيقول : لِمَ أتحمل هذا العبء وأسير عكس التيار ؟! .. عقبات كثيرة ومعوقات عديدة تعترض مسيرة الدعوة والدعاة . فما ينبغي لحامل الدعوة المؤمن بها أن يعتريه ضعف ، أو تضيق نفسه بشرف حملها والنفحِ عنها وبذلِ ما يستطيع في سبيل الوصول إلى نجاحها. ..عليه فقط أن يبذل جهده وأن يخلص نيته ،فهوالأداة البشرية التي اختارها الله تعالى للتعامل مع أمثاله من الناس ، أما الهداية وقلوب البشر فبيد الله يهديها إليه سبحانه إن شاء ، ويضلها حين تستكبر وتجحد وتُعرض عن منهجـه القويـم . " والله على كل شيء وكيل " .
- والتأمل السادس يتجلى في نفسية الكفارالواحدة التي لا تتغير في الأزمنة والأمكنة وإن تغيرت الأزمنة والأمكنة نفسها... إن أول الأنبياء نوح ، وآخرهم محمد عليهم الصلاة والسلام يلقـَون من المشركين " سيمفونية واحدة " هي التكذيب بالأنبياء وما جاءوا به ، فهذا الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام يتهمه كفار العرب ومشركوهم أنه افترى القرآن الكريم ، مع أن دعواهم ساقطة من أساسها . فهم قومه ولغته لغتهم ، فلو كان القرآن تأليفه لاستطاعوا المجيء بمثله ، ولكنهم لن يستطيعوا ذلك ، ولن يستطيعوا المجيء بعشر سور مثله ، ولا بسورة واحدة ، وإن جهدوا ، وإذا عجزوا عن ذلك فالقرآن –إذاً- من عند الله تعالى" فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله ، وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ؟ ..." .. نعم يا رب : نحن بفضلك مسلمون . ..وهذا النبي الكريم نوح يلقى من قومه اتهاماً بأنه يفتري على الله هذا الدين " أم يقولون افتراه ؟! قل : إن افتريته فعليّ إجرامي ، وأنا بريء مما تجرمون " .. وهذا الاتهام لأول الأنبياء وآخرهم يندرج تحته وصم الكفار للأنبياء جميعاً بهذه الفرية ... وهذا هود عليه السلام الذي سميت السورة باسمه يرد على الكفار بأنه ليس مفترياً بل إنهمم هم المفترون " ... إن أنتم إلا مفترون.." . وقوم صالح يعزفون اللحن التكفيريّ نفسه فيقولون : " وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب " . فهم بهذا يتهمونه بالافتراء ... وهؤلاء قوم لوط لما دعاهم إلى العفة ، والزواج الحلال من الفتيات الطاهرات كشفوا جانب الفجور، وأظهروا المستور دون رادع من أخلاق " قالو : لقد علمت مالنا في بناتك من حق ، وإنك لتعلم ما نريد " وتراهم يرفضون مع شعيب التعامل بالمال الحلال ، ولا ينتهون عن تطفيف الكيل والميزان ، ويهددونه بالقتل لولا رهطه الذين يمنعونه ...
فإذا أطل التأمل السابع – وهو مقولة الأنبياء الواحدة على مر الدهور – الدعوة ُ إلى الله وإفراده بالعبادة والتوبة والإنابة إليه وجدنا المقولة عند نوح عليه السلام " أن لا تعبدوا إلا الله ، إن أخاف عليكم عذاب يوم أليم " ورأيناها نفسها عند هود عليه السلام " قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ، إن أنتم إلا مفترون " وألفيناها نفسها عند صالح عليه السلام " قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها " وكذلك نجد المقولة نفسها عند شعيب عليه السلام " يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره .." .
كما أن الجميع يرددون الطلب إلى قومهم أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه " فالله تعالى أمر محمداً عليه الصلاة والسلام في الآية الثالثة أن يذكر قومه بالاستغفار والتوبة " وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه .. " وكذلك يقول النبي هود عليه السلام في الآية الثانية والحمسين ، والنبي صالح عليه السلام في الآية الواحدة والستين ، والنبي شعيب عليه السلام في الآية التسعين ،
ونتيجة الاستغفار والتوبة في الآية الثالثة الحياة الطيبة في الدنيا والفضل العميم في الآخرة ، ونتيجته في الآية الثانية والخمسين الحياة الرغيدة والقوة العظيمة . ونتيجته في الآية الواحدة والستين التمكن في الأرض ورضاء الله تعالى ، ونتيجته في قصة شعيب الخير والنماء ، والرحمة والود ، والأمان من العذاب .
ونجد مقولة الأنبياء واحدة في تطمين الناس أنهم لا يريدون منهم جزاء ولا شكوراً وأنهم لا يبتغون من ذلك الكسب الدنيوي ولن يكلفوا الناس شيئاً ،وهم ينتظرون الأجر العظيم من الله تعالى ، فنوح عليه السلام يقول لهم في الآية التاسعة والعشرين : " ويا قوم لا أسألكم عليه مالاُ إن أجري إلا على الله .." ويكرر هود عليه السلام المقولة ذاتها في الآية الواحدة والخمسين " يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني .." كما أن المشركين عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم المال الكثير والزعامة والسيادة والنساء والطب ، فأخبرهم أنه لا يريد منهم إلا أن يشهدوا لله بالوحدانية .
- فإذا توقفنا عند التأمل الثامن- وهو مقارنة بين خاتمة المجرمين والمؤمنين - وجدنا الكافرين – والعياذ بالله – في النار، 1- ليس لهم أولياء يدفعون عنهم العقاب الأليم ، بل إن العذاب يضاعف ، فيزداد بلاؤهم .
2- خسروا أنفسهم في جهنم خالدين ، فلم ينفعهم آلهتهم
المزعومة .
3- قد يخسر الإنسان ماله فيعوضه ، وقد يخسر أهله ، فيجد
غيرهم .. ، لكنه إن خسر نفسه فقد خسر كل شيء.
أما المؤمنون الذين عملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ، وكانوا عباداً مرضيين فـ " أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " . نسأل الله تعالى أن نكون منهم . فالفريق الأول – الكفار – مثلهم كمثل الأعمى الأصم ، والفريق الثاني – المؤمنون – كالبصير السميع ، وشتان شتان بين هؤلاء وهؤلاء :" .. هل يستويان مثلاً ؟ أفلا تَذَكّرون ؟ " .
- ونصل إلى التأمل التاسع فنرى الكبر عند الكفار الذين يأنفون أن يؤمنوا بما آمن به الضعفاء من الناس " وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي .." ويطلبون إليه أن يطردهم ، ولن يؤمنوا بالله الواحد ولا نبوة نوح ولو طرد الضعفاء والفقراء . وهذا يذكرنا بالشيء نفسه الذي احتج به كفار قريش ، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد البسطاء من ضعفاء المسلمين فكان رد القرآن سريعاً وحاسماً في سورة الكهف : " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً " فاحتفى بهم النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في إكرامهم . وكذلك فعل النبي نوح عليه السلام حين قال للملأ الكافرين من قومه : " وما أنا بطارد الذين آمنوا ، إنهم ملاقوا ربهم ، " ثم أنحى على الكافرين باللائمة ، ونعتهم بما يستحقون من توبيخ فقال : " ولكني أراكم قوماً تجهلون " .
- التأمل العاشر القدوة الصالحة . فشعيب عليه السلام حين دعا قومه إلى إيفاء المكيال والميزان ، وإعطاء الناس حقوقهم والبعد عن أكل الباطل قال : " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " فهو يأمر بالمعروف ويبدأ بنفسه ، وينهاهم عن المنكر ، وينتهي عنه أولاً .. وهكذا الداعية الصدوق ، ورحم الله الشاعر القائل :
يا أيها الرجل المعلم غيره هلاّ لنفسك كـان ذا التعليـم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فانت حكيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم القدوة في كل شيء ، ففي المعركة كان المقدّم ، فقد روى الإمام علي رضي الله عنه قال : " كنا إذا حمي الوطيس واحمرّت الحِدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يكون أحد أقربَ إلى العدو منه " وحين نهى عن الربا نهى عمه العباس أول الناس ، وحين نهى عن الثأر في الدماء الجاهلية بدأ بدم ابن عمه .. وكان تلميذه النجيب عمر الفاروق رضي الله عنه حين يأمر أو ينهى يجمع أهل بيته فيأمرهم وينهاهم أولاً ، ويلوّح بالعقوبة المضاعفة لهم إن خالفوا .. ومن هنا نجد قوله تعالى في الآية الثانية عشرة بعد المئة أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم – وهو قدوتنا – بالاستقامة " فاستقم كما أمرت ، ومن تاب معك ، ولا تطغَوا إنه بما تعملون بصير " فإذا استقام الرأس استقام ما بعده ، وإن فسد الرأس فسد ما دونه . ولن يتبع أحد أحداً ولن يصدقه مالم يره يبدأ بنفسه قبل الآخرين في كل شيء ، وما لم يكن صادقاً في نفسه يتعهدها بالصلاح والتزكية قبل إصلاح الآخرين وتزكيتهم ، ولن يثبت على الاستقامة إلا عظماء الرجال .
 


 تأملات تربوية في سورة هود ( 2)
الدكتور عثمان قدري مكانسي


طوفان نوح
- لا تكون العقوبة إلاّ بعد الإنذار والتحذير ، والله سبحانه وتعالى يرسل الرسل يعلمون الناس السبيل المستقيم ، وينذرونهم الخروج عن الحق واتباع الأهواء " ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين " فيرشدونهم إلى عبادة الله ورضاه ، وإلا كان الهلاك مصيرهم ، وحلت العقوبة بساحتهم في الدنيا والآخرة " ألا تعبدوا إلا الله ، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم " .
- ومضت السنون العجاف - المئات التسعُ والخمسون- قاسية على النبي نوح عليه السلام وعلى من آمن به – وعادة ماتُذكر السنة للجدب والتعب والنصب ، ويُذكر العام للخصب والنماء ، والدليل على ذلك في لغة العرب " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً " فلم يشعر نوح بالراحة إلا بعد القضاء على القوم الكافرين في الخمسين عاماً الباقية من عمره بعد الطوفان ، كما يروي المفسرون .
- وتحق العقوبة حين يغلق الكافرون قلوبهم ، ويستكبرون على الحق ، ويصرون على العصيان ، فقد روي أن الرجل كان يأتي بابنه إلى حيث نوحٌ عليه السلام ، ويشير إليه ويقول لابنه : هذا كذاب أشر ، نبهَني منه جدك وحذرني ، وأنا أحذرك من اتباعه وتصديقه ، فيتألم النبي الكريم عليه السلام ، ويرفع يديه إلى السماء " فدعا ربه : أني مغلوب فانتصر" ، ثم يدعو عليهم ، فقد طفح الكيل ، وازدادوا عتـُوّاً وفساداً " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً ، إنك إن تذرهم يُضلوا عبادك ، ولا يلدوا إلا فاجراً كفـّاراً "
- ويوحي الله تعالى إلى نوح أن القوم استغلقت قلوبهم وتبلدت أحاسيسهم ، ولن يصدقه إلا من كان قد آمن به فقط " وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " فتنتهي مهمته في الدعوة بينهم ، وينصرف عن دعوتهم ، فلا زراعة في الصخور ، ولا إنبات في الأرض المالحة ، ولا يجوز لنبي داعية أن يجتهد في ترك قومه دون إذن من الله كما فعل يونس عليه السلام ، فعوقب ، ثم تاب الله عليه ونجّاه من الغم .
- لا شك أن الداعية يُسَرُّ حين يستجيب له قومه ، ويتألم حين ينصرفون عن دعوته .ونشعر بعميق ألم نوح عليه السلام إذ عاداه قومه ، وكذبوه " رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً ، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ، وأصرّوا ، واستكبروا استكباراً " وسورة نوح في الجزء التاسع والعشرين تصور حزنه الشديد وحسرته أنْ لم يكونوا مؤمنين ،وفي سورة هود يخفف الله تعالى عنه كي لا يحزن ويغتم : " فلا تبتئس بما كانوا يفعلون " ونوحٌ ليس بدعاً من الرسل ، فرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يحزن لتكذيب قريش له ، فيخفف الله تعالى عنه قائلاً " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " وينبهه إلى تحمل ذلك " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً " وموسى عليه السلام يكاد يحس بالإحباط ، فيعبر عن ذلك بقوله " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين "
- والأنبياء – ومن بعدهم الدعاة ُ – رحماء بقومهم ، لا يريدون الهلاك لهم ، ولو آذَوهم . ولئن نذّ عن الدعاة في لحظة ضعف وألمٍ غضبٌ ودعاء بهلاك الكافرين منهم ، فدعوا عليهم ، إنهم سرعان ما تتحرك الشفقة والعطف ، فتظهر فيهم الرحمة ، فنوح عليه السلام يدعو عليهم في سورة غضب من سوئهم وتكذيبهم وشدة كفرهم : " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديـّاراً " إلا أننا نلمح رحمته بهم في قول الله تعالى له " ولا تخاطبني في الذين ظلموا ، إنهم مغرقون " فلولا علم ُالله تعالى رحمة َ نوح بقومه ما نبهه ابتداءً في عدم الشفاعة بهم . كما أن جواب الرسول صلى الله عليه وسلم حين سأله أصحابه أن يدعو على أهل الطائف وهو يحاصرهم " اللهم اهدِ ثقيفاً وائتِ بهم " وحين ينزل عليه ملَك الجبال بأمر الله تعالى – وقد طردته قريش وثقيف - ويقول له : يار سول الله لو شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبَين يقول الرحيم بقومه " اللهم اهد قومي ، فإنهم لا يعلمون " أما آخر آية من سورة التوبة ، فإنها وسام في جبين النبي محمد صلى الله عليه وسلم " لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتـّم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم .. "
- هلاك الكفار بيد الله تعالى – أمر لا شك فيه – وهو القدير يقرر الطريقة التي يعاقبهم بها حين يتمردون ، ويجترئون " فكُلاّ أخذنا بذنبه ، فمنهم مَن أرسلنا عليه حاصباً ، ومنهم من أخذتـْه الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض ، ومنهم من أغرقنا " وكان في الغرق هلاك قوم نوح . ولن يُجمعوا فيساقوا إلى البحر ، ولكنّ المياه بإذن الله ستجتاحهم ولا تبقي منهم أحداً ، ولا بدّ من نجاة نوح والمؤمنين ، ومع أن الله تعالى رب الأسباب يفعل مايشاء إلا أنه يعلمنا أن نتخذ الأسباب ، ونعتمد عليه بعد اتخاذ الأسباب ، فلا بد – إذاً - من سبب للنجاة ... فلتكن السفينة التي تقل المؤمنين جاهزة ، وسيصنعها النبي نوح والمؤمنون معه بإذن الله تعالى . " فاصنع الفلك بأعيننا ووحينا " .
- ويبدأ نوح عليه السلام والمؤمنون معه يصنعون سفينة النجاة بتوفيق من الله ، يدل على هذا التوفيق تلكما الكلمتان( الأعين والوحي) فرعاية الله تحفظهم ، ووحيه يرشدهم ، ومن كان الله معه فهو الفائز الراشد أبداً . ألم يبدأ الرسول محمد عليه الصلاة والسلام بناء المسجد النبوي وتبعه المسلمون يعملون بجد ونشاط قائلين :
لئن جلسنا والنبي يعمل لَذاك من العمل المضلل
وكان صلى الله عليه وسلم يحفر الخندق مع المسلمين .. ويشارك في صنع طعام أصحابه ، وهو القائل حين أزمع أصحابه الطبخ في سفرهم وقالوا استرح يا رسول الله ، فنحن نكفيك : " وعليّ جمع الحطب " .. صلى الله عليه وسلم .
- الثقة بالنفس والإيمان بالدعوة يبث القوة في الداعية ، ويدعّم موقفه أمام اللآخرين . فهؤلاء الكفار يسخرون من نوح عليه السلام وأصحابه حين يرونهم يصنعون السفينة ، فيرد عليهم نبي الله نوح إن كنتم الآن منا تسخرون ، فنحن نسخر منكم الآن وحين تقع الواقعة ، ويحين هلاككم ، ومن يضحك أخيراً فهو الفائز في الدنيا والآخرة ...
" ويصنع الفلك ......
وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ........
قال : إن تسخروا منا ، فإنا نسخر منكم كما تسخرون ....
فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ، ويحل عليه عذاب مقيم "
- وقد كان نوح عليه السلام ينتظر انفجار الماء من الأرض ونزوله العظيم من السماء ، وينبه أهله وأتباعه أن يكونوا لأمره يقظين ، ولإشارته منتبهين ، فإذا ما بدأت لحظة الصفر جاء الأمر بركوب السفينة ، ولن يركبها إلا السعيد بالإيمان من أهله وأتباعه . أما الكفار - مهما كانت قرابتهم منه عليه السلام - فهم من الهالكين . وقد يكون للأنساب في الدنيا مكان وتمكين ، أما في الآخرة فالعمل الصالح والإيمان بالله يرفع صاحبه . ولا تنفع الأنساب مالم يكن هناك إيمان وتقوى" فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " . وقد كان أصحاب نوح قليلين ، بضعاً وثمانين ، والعبرة بالنوع والكيف لا بالعدد والكمية . منهم تعود البشرية إلى التكاثر والنماء " ذريـّة من حملنا مع نوح ، إنه كان عبداً شكوراً " .
- ويركبون السفينة وعين الله ترعاها ، والمؤمن تكلؤه عناية المولى سبحانه وتحميه وتنقذه من البلاء وتسمو به إلى النجاة والهناء " بسم الله مجريها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم " .. بدأت المياه تتفجروتندفع من كل شبر من الأرض بقوة ، ونزلت أنهار السماء وبحارها تتدفق تدفقاً لا يوصف ، والماء يعلو بسرعة متناهية .. وهرب الناس بأنفسهم إلى الروابي والجبال ظانين أنهم بذلك ينجون من الغرق !!.. ولكن قدر الله يحيط بهم وهم حتى اللحظة الأخيرة من حياتهم سادرون في الضلالة لا يرعوون ... سقط الضعفاء في السهول والوديان ، وتركت الأمهات أطفالهن ينجون بأنفسهن وانطلق الرجال دون المال والأطفال والنساء لا يلوون على شيء ، كلهم يسأل النجاة لنفسه فقط .كما يفعل الناس يوم القيامة " يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ،وصاحبته وبنيه ،لكل منهم يومئذ شأن يغنيه "
- ويرى الأب الرحيم نوح أحد أولاده – وكان كافراً كأمه - يغالب الموج والماء منطلقاُ إلى جبل قريب يعتصم به من الموت المحقق ، فتتحرك الرأفة والرحمة الأبوية ، فيناديه: " يا بني ؛ اركب معنا ، ولا تكن مع الكافرين " .. أقول : : لو أنه قال له اركب معنا لركب – ربما – ولكن نوحاً اشترط الهادية والإيمان لركوب السفينة والنجاة من الغرق حين قال " ولا تكن مع الكافرين " فأخذت الولدَ العزةُ بالإثم وانطلق مبتعداً إلى الجبل ، فلم يمهله الموج أن لطمه وجرّه إلى حيث الموتُ والهلاك السريع .. كيف ينجو ؟! والموج كالجبال علوا وحجماً وارتفاعاً وقوة ، وكالريح الشديدة سرعة وحركة وأخذاً ؟! .. إنّ من غالب الله هُزم ، ومن عاداه قـُصِم ، ومن اجترأ عليه ندم .. ندم حيث لا ينفع الندم ، ولا يجدي الألم ...
- كل عمل لا يُبدأ فيه ببسم الله أبتر كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكرُ الله عنوانُ الإيمان وسِمَة المسلم لعلمِه أن كل شيء بيده سبحانه ، يصرف الأمور كيف يشاء . فمن لجأ إلى الله تعالى فقد لاذ بالأمن والنجاة ، (وتصور أخي الحبيب السفينة مهما كانت كبيرة تمشي بين موج كالجبال لا يحفظها من هذا الموج سوى الله ) وفي تفسير القرطبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم : "وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضتُه يوم القيامة ، والسماوات مطويات بيمينه ، سبحانه وتعالى عما يشركون ." " بسم الله مجريها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم " "
- لو أمعنا النظر في قوله تعالى يخاطب الأرض والسماء " وقيل يا أرض : ابلعي ماءك ، ويا سماء أقلعي " بهذا الجمال والوضوح مع الاختصار ما وجدنا أجمل منه ولا أوضح تعبيراً .. جملتان قصيرتان خضعت لهما السماء والأرض ، فقد التقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدر ، فأمَر اللهُ تعالى الماءَ النازلَ من السماء بالإقلاع ، فلم تمتص الارض منه قطرة ، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط ، فما جاوزت ذلك . وانتهى الأمر بجملتين صغيرتين أُخريين " وغيض الماء ، وقُضي الأمر " فعاد كل شيء كما كان .... وأماكن السفن في البحر، ترسو على الشطآن ، أما سفينة الإيمان فقد رست أعلى الجبل ، وبقيت آية تدل على عظمة الله وقدرته سبحانه .
- ألم يقل الله تعالى لنوح عليه السلام " قلنا احمل فيها زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ، ومن آمن "؟ وظن نوح عليه السلام أن ابنه من أهله . فقال بعد أن نزل من السفينة وهدأت نفسه ونفوس المؤمنين معه من صعوبة هذه الرحلة الشاقة وحنّ إلى البنه الغارق " ربِّ إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين " فهو يستنجز وعد الله الحق أن ينجي ابنه فهو من أهله !. فينبهه الله تعالى أن الإيمان والكفر لا يجتمعان ، وأن الصلة الحقيقية بين الناس صلة الإيمان بالله تعالى فلئن كان الغارقُ ابنـَه ومن صلبه – نعم من صلبه ، فنساء الأنبياء لا يزنين فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما " ما بغتْ امرأة نبي قط " أما قوله تعالى في زوجتي نوح ولوط " ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ، كانتا تحت عبدين من عبادنا فخانتاهما .." إن خيانتهما في أنهما لم تؤمنا بهما وكانتا مع قومهما عليهما - إلا أنه لم يؤمن ولم يعمل صالحاً ، فلـْتنقطعِ العلاقة ُ إذاً! " قال : يا نوح ؛ إنه ليس من أهلك ، إنه عملٌ غيرُ صالح " . من هذا نفهم كيف كان قتال بين أبي عبيدة رضي الله عنه وبين أبيه الجراح في معركة بدر فقتل عامر أباه . وكيف كان رأي الفاروق رضي الله عنه أن يُقتل الأسرى من أهل بدر ولو كان بعضهم لبعض رحِماً وقريباً وخالفه بعضهم فنزلت الآية من سورة الأنفال تؤيد رأي الفاروق عمر " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا ، والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم " .
- ونوح عليه السلام مثال المؤمن الذي يمتثل لأمر الله ، ويعترف بخطئه ، ويستغفر الله إن أخطأ ،ويسرع إلى مرضاة الله والرغبة في عفوه ورحمته . فلما حذره الله تعالى أن يكون من الجاهلين فيسأل ما ليس له به علم استعاذ بالله أن يزل أو يقع في الخطأ وتذلل لله وخضع له ، " قال ربّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ، وإن لم تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين " فشكر الله له هذا التذلل والخضوع ، وأكرمه بالسلامة على الأرض مع قومه والبركات منه سبحانه للجميع " " قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك .." وكانت العاقبة للمؤمنين الصادقين ..
اللهم إنا نسألك الهداية ونسألك النجاة من كل سوء لنا وللمسلمين جميعاً .. يا رب العالمين . اللهم آمين آمين
 


 تأملات تربوية في سورة هود(3)
الدكتور عثمان قدري مكانسي


- السلام سنة ، ورده واجب ، هذا ما كان من ضيوف إبراهيم عليه السلام حين دخلوا فسلموا ورد عليهم السلام ، فكان ما فعله سنة للمسلمين إلى يوم القيامة :" ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ، قالوا سلاماً . قال : سلام " ومن السنة أيضاً أن من حياك بتحية كان عليك أن ترد عليه بأحسن منها ، فإن لم تفعل فبمثلها " وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " .. فهل أجاب إبراهيم عليه السلام التحية بمثلها أو بأحسن منها؟ والجواب أنه ردها بأحسن منها ، فقد حيـَّوه بالجملة الفعلية التي تفيد الحدوث ، ورد عليهم بالجملة الاسمية التي تفيد الثبوت . والثبوت أقوى من الحدوث ، فكان رد النبي إبراهيم عليه السلام بأحسن من تحيتهم .
- وتحية المسلمين " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما " صباح الخير ، أو أو مساؤه ، وما تلقفناه عن الغرب هذه الأيام من " هاي ، باي ، مورننج " فليس من تحية المسلمين ، لقد دخل عمرو بن وهب الجمحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له ولأصحابه " أنعموا صباحاً " - وكانت تحية أهل الجاهلية – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد أكرمنا الله بتحية خيرٍ من تحيتك يا عمير ، تحية أهل الجنة "
- ومن حسن الاستقبال : أ- أن تكرم الضيف بالطعام أو الفاكهة ،
ب - وأن تقرب لهم الطعام أو الضيافة ، فقد رأينا أن إبراهيم عليه السلام بعد أن سلم عليه الملائكة – وهو لا يدري أنهم ملائكة قدم بين أيديهم لحماً مشوياً " فما لبث أن جاء بحجل حنيذ " وفي سورة الذاريات " فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين " وكلمة راغ توحي بأنه كان حريصاً على قـِراهم ، فلم يسألهم : أتأكلون فآتي بالطعام ، بل إن على صاحب البيت أن يأتي بالطعام دون أن يسألهم حتى لا يستحيوا فيجيبوا بالنفي .
ج - كما أن على صاحب الدار أن يكون قراه طيباً وكثيراً " فالعجل مشوي سمين " وهذا من مكارم الأخلاق وآداب الضيافة ، وليست بواجبة عند عامة أهل العلم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : "الضيافة ثلاثة أيام ، وجائزته يوم وليلة ، فما كان وراء ذلك فهو صدقة " .والمقصود بالجائزة : الهبة والعطيّة ، وقال صلى الله عليه وسلم : " :: ومن كان يمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " فـ" ليلة الضيف حق " كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
د – ثم التلطف في الدعوة إلى الطعام ، فلم يقل لهم : " كلوا " إنما قال لهم بصيغة السؤال متلطفاً " ألا تأكلون ؟"
هـ - ومن الإكرام أن يقدم الطعام للضيفان من صنع أهل البيت ما أمكن ، فالتكلف غير مرغوب
- ومن جمال التعبير في الآية " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه " أنهم لم يتحركوا ولم يهتموا بالطعام . وعملهم هذا في العرف الاجتماعي أنهم أعداء يستهينون بمن دخلوا عليه داره . ويخيف صاحب الدار أن عدوه يتحداه في عقر داره ، ويرفض الصلح ، وكأنه ما جاء إلا عن قوة ليفرض ما يريد " فنَكِرهم وأوجس منهم خيفة " وهنا يفصحون عن أنفسهم . فهم ملائكة الله جاءوه مبشرين بإسحاق نبياً من الصالحين وبحفيده من إسحاق يعقوب عليهم جميعاً الصلاة والسلام ، فيرتاح قلبه وتهدأ نفسه " قالوا : لا تخف ." ... " فبشرناه بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب " .
وقد يمتنع الضيف عن قبول الضيافة إلا أن يطلب حاجة من ضائفه ، ويجيبه هذا إليها ، فيمد يده إلى قراه . وهذا معروف عند أهل البدو والأرياف .
- من سمات المسلم اهتمامه بسلامة إخوانه ،وسيدنا إبراهيم قدوتنا وخير مثال على ذلك . فإنه حين علم أنهم سيهلكون قوم لوط – ولوط ابن أخيه - فزع أن يصيبه مكروه فبدأ يجادل الملائكة في أمر لوط عليه السلام : وَهَذِهِ الْمُجَادَلَة رَوَاهَا حُمَيْد بْن هلال عَنْ جُنـْدُب عَنْ حُذَيْفَة ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا : " إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْل هَذِهِ الْقَرْيَة " قَالَ لَهُـمْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا خَمْسُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أتُهلكونهم ؟ قَالُوا : لا . قَالَ : فَأَرْبَعُونَ ؟ قَالُوا : لا . قَالَ : فثلاثون ؟ قَالُوا :لا . قَالَ : فَعِشْرُونَ ؟ قَالُوا : لا . قَالَ : فَإِنْ كَانَ فِيهَا عَشَرَة - أَوْ خَمْسَة " شَكَّ حُمَيْد " - قَالُوا : لا . وَقـيلَ إِنَّ إِبْرَاهِيم قَالَ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا رَجُل مُسْلِم أتـُهلكونها ؟ قَالُوا : لا . فَقَالَ إِبْرَاهِيم عِنْد ذَلِكَ : " إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَم بِمَنْ فِيهَا لـَنـُنـَجـّينـّه وَأَهْله إلا اِمْرَأَته كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ " الْعَنْكَبُوت : 32 . وهذا النبي لوط عليه السلام ينصح قومه بزواج الفتيات الطاهرات ويأمرهم بتقوى الله تعالى وعدم معصيته " قال : يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله " ويرشدهم إلى احترام الضيف وحفظ مروءته وعدم التعرض له بما يسيء له ولمن ضافه " ولا تُخزونِ في ضيفي ، أليس منكم رجل رشيد؟ " .
- من سمات الفاسقين المنحرفين قومِ لوط أنهم كانوا :
أ – سفهاء ، يهرعون حيث تقودهم شهواتهم ، فإنهم لما علموا بوجود شباب صِباح الوجوه أسرعوا إلى بيت لوط عليه السلام يريدون عمل الفحشاء بهم " وجاءه قومه يُهرعون إليه ..." .
ب – منغمسين في الفحشاء مَردوا عليها ، ومن كان منقاداً لهواه غارقاً بفساده ضاع الحياء منه وجاهر بالمعصية " ومن قبلُ كانوا يعملون السيئات "
ج – اختلـّتْ مفاهيمهم وفسدتْ أذواقهم ، فرأوا الخبيث طيباً والطيب خبيثاً " قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق ، وإنك لتعلم ما نريد " بل زجروه في سورة الحجر وكأنه المخطئ وهم أصحاب الحق والسداد بأن لا يتدخل فيما لا يعنين ، ولا يدافع عن أحد " أولم ننهَك عن العالمين ؟ ؟ وهذا وهدة السفالة والانحطاط حين يرى الفاجر نفسه على صواب وغيره على خطأ فيعلو عليه ويهدده .
- قد يضعف المرء لحظة مهما كان حازماً وحكيماً حين يرى الخطب يشتد عليه " وخلق الإنسان ضعيفاً " فهذا لوط عليه السلام حين رأى من جواب قومه التعنت واندفاعهم إلى ضيوفه ، ولم يستطع ردهم قال : " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " فقد خاف على ضيوفه أن يفحش الفسقة فيهم وهو لا يعرف كنههم ، وَمُرَاد لُوط بِالرُّكْنِ الْعَشِيرَة , وَالْمَنَعَة بالكثرة - وهو المهاجر إلى بلدتهم من العراق مع عمه إبراهيم ، وما صاروا قومه إلا لأنه عاش فيهم وتزوج منهم - . وَبَلَغَ بِهِمْ قَبِيح فِعْلهمْ إِلَى قَوْله هَذَا مَعَ عِلْمه بِمَا عِنْد اللَّه تَعَالَى ; فَيُرْوَى أَنَّ الْمَلائِكَة وَجَدَتْ عَلَيْهِ حين قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَات , وَقَالُوا بعد أن عرّفوه بانفسهم : إِنَّ رُكْنك لَشَدِيد . وَإنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذاب غَيْر مَرْدُود , وَإِنَّا رُسُل رَبّك ; فَافْتَح الْبَاب وَدَعْنَا وَإِيَّاهُمْ ; فَفَتَحَ الْبَاب فَضَرَبَهُمْ جبْرِيل بِجَنَاحِهِ . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يَرْحَم اللَّه لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْن شَدِيد " .
- الله تعالى القوي يفعل ما يشاء ، فيرشد ، وينبه ، ويحذر ، ثم يهدد وينفذ .. هذا ما وجدناه في قوله تعالى يهدد قوم لوط ويتوعدهم " إن موعدهم الصبح ، أليس الصبح بقريب؟ فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود ، مسوّمة عند ربك " ووجدنا ذلك في عقوبة قوم صالح حين عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم " فعقروها ، فقال : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ، ذلك وعد غير مكذوب " وأخذتهم الصيحة فقطعت أوصالهم وجففت أجسادهم فماتوا لفورهم . وأخذت الصيحة – كذلك قوم شعيب ، فكانت نهايتهم عيرة لمن يعتبر. .. وأغرق الله فرعون وقومه ، فلم تقم لهم قائمة . وإذا أهلك الله تعالى الناس بكفرهم فهم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم واستكبارهم فلن ينفعهم أحد فعذاب الله الشديد إن وقع لا مردّ له " وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك ، وما زادوهم غير تتبيب." .. لكنّ العاقل من يتعظ
- يطلب مشركو قريش آيات تدل على نبوة الحبيب المصطفى ، مع أن القرآن كان أقوى آية أوتيها المصطفى صلى الله عليه وسلم وكان الدليل العظيم على نبوّته صلى الله عليه وسلم فهم لا يستطيعون الإتيان بمثله ولا بعشر سور من مثله ولا بسورة واحدة " وقالوا : لولا أنزل عليه آيات من ربه " فلما قال صلى الله عليه وسلم " سبحان ربي ؛ هل كنت إلا بشراً رسولاً " طلبوا آية واحدة " ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه؟" فكانت آية انشقاق القمر : ،" اقتربت الساعة وانشق القمر ، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر . " .. طلبوا منه الآية فلما جاءت كذبوه كما طلب قوم صالح عليه السلام منه آية فأرسل الله تعالى الناقة ، فظلموا بها ، وازدادوا عتواً وكفراً فعقروها . وما دام هذا دأبهم فلا آيات بعد ذلك . لماذا ؟ لأنهم أحفاد قوم صالح ، وملة الكفر سبيلها معروف " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ، وآتينا ثمود الناقة فظلموا بها " ومهمة الآيات الإنذار والتخويف من الكفر والتحذير من العناد ، وما لم تفلح في قلوب قدت من صخر فلِمَ تكرارُها ؟ " وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً " .
- وفي آخر مطافنا السريع في سورة هود نقف على بعض الأركان التي فيها صلاح المجتمع أولها الاستقامة في الحياة على الدين ،والسير على الصراط المستقيم فهو ملاك الأمر، والهادي إلى الخاتمة السعيدة . " فاستقم كما أمرتَ ومن تاب معك ...." وحين يسير المجتمع على تقوى من الله تستقيم الحياة باستقامته . وقد روى سفيان بن عبد الله الثقفيّ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ؛ قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك . قال " قل آمنت بالله ، ثم استقم " . فإن استقام الإنسان عرف حده فلم يتجاوزه وابتعد عن الطغيان ، فلم يظلم أحداً ، جاء دور القسم الثاني من الآية السابقة " ... ولا تطغَوا إنه بما تعملون بصير " . وثانيها الانصراف عن الظالمين وعدم إطاعتهم وصحبتهم وعدم الميل إليهم والرضا بأعمالهم ، بل يجب الإنكارُ عليهم ظلمَهم وفسادَهم ، فمن ركن إليهم كان منهم ، وناله ما ينالهم من السخط والعذاب ، وهذا أمر خطير لا ينتبه إليه كثير من النابهين فضلاً عن العوام والدهماء . " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ، فتمسّكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ، ثم لا تُنصَرون " . وثالثها الاجتهاد في عبادة الله تعالى وأداء الصلاة المكتوبة على أتم وجه ، فإن ذلك يورث الحسنات ويمحو السيئات " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، ذلك ذكرى للذاكرين "
إضاءة أولى : هذه الآية ( وأقم الصلاة ...) من الآيات الدالة على الصلوات الخمس صلاة الفريضة طرف النهار الأول صلاة الفجر . وفي طرف النهار الثاني صلاتا الظهر والعصر . أما صلاتا زلف الليل ( ساعات الليل الأولى) فالمغرب والعشاء .
إضاءة ثانية : ومثلها قوله تعالى " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ، وقرآن الفجر ، إن قرآن الفجر كان مشهوداً " والدلوك ( زوال الشمس عن كبد السماء ) وهنا تبدأ صلاة الظهر ثم العصر ، وفي غسق الليل ( ساعاته الأولى) صلاتا المغرب والعشاء ، ولمقصود بقرآن الفجر صلاة الفجر نفسها .
إضاءة ثالثة : ومثلها قوله تعالى " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ، وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون " فصلاتا المساء المغربُ والعشاء ، وصلاة الفجر عند الصباح ، والإظهارُ صلاة الظهر ، أما العشيّ (فساعات ما قبل الغروب ) صلاة العصر .
والصلاة جماعة ً هُوية المسلم الاجتماعي المندمج بإخوانه المسلمين . الحريص على وصالهم . ورابعها الصبر على العبادات والصبر في مرضاة الله تعالى والصبر عن المفاسد المؤدي إلى درجة الإحسان " واصبر فإن الله لا يُضيع أجر المحسنين " ومن صبر على الناس فخالطهم وتحمل أذاهم ، ثم أمسك بأيديهم يسير معهم في درب الحب في الله ، وأحسن إليهم فقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم له بالخيرية " المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ." وخامسها إيجابية المسلم الذي يصلح ويأمر بالإصلاح ، وينهى عن الفساد وهذا دأب المسلم الغيور على دينه الذي يقوّم الاعوجاج ويدعو إلى الاستقامة " فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض " " ونتيجة الإصلاح عمار الأرض وكسب رضاء الله تعالى " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " . ألم يهلك الله تعالى القرى التي كثر الفساد فيها وحكم القائمون عليها بغير ما أنزل الله ؟ " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ، ففسقوا فيها ، فحق عليها القول ، فدمّرناها تدميراً "
اللهم أحينا سعداء ، واجعلنا إخوة متحابين وارزقنا رضاك والجنة واجعلنا من أهل التقوى والرشاد :
إن الإنـسـان بـتـقـــواهُ *** يعـلـو ويُـبـارَكُ مسـعـاهُ
والعملُ الصالح يرفعـهُ *** في النـاس ويُكـرمـه اللهُ
فاعملْ خيراً تلقَ الأجرا *** تـُرفـع عند المولى ذكـرا
وتعـاهدْ إخوانـَك دومـاً *** فإذا عُسرُك يصبح يسرا

 


المراجع

saaid.net

التصانيف

أدب  مجتمع