كثيرا ما يشتكي الدعاة والعاملون في حقل الدعوة في العصر الحديث من تصرفات بعض المدعوين لديهم ، وصدور بعض السلوكيات التي ما كان ينبغي أن تظهر منهم ، أو تصدر ممن هم في مستواهم الدعوي ، وهنا يبدأ الداعية في البحث عن موضع الخلل في طريقته التي اعتمد عليها مع هؤلاء الأفراد ، ثم يبدأ في جلد نفسه ، وتأنيبها ، وتوبيخها ، وربما أورثته هذه التجربة الدعوية الخوف من تكرارها مع شخص آخر ، وربما دفعته أيضا إلى القعود عن العمل بحجة أنه غير ناجح في هذا المجال .
ولو راجع هذا الداعية نفسه لوجد أن أسباب هذه المشكلة تكمن في شيء واحد هو " الاستعجال " في التقييم لهذا المدعو .
تعريف العجلة والتحذير منها
والعجلة:هي التقدم بالشيء قبل وقته .
وضدها الأناة : وهي التثبت وعدم العجلة .
وإذا كانت صفة الاستعجال ، أو العجلة صفة جبل الإنسان وفطر عليها إلا أن الله سبحانه وتعالى قد حذره منها كما قال ربنا تعالى ) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (" الأنبياء الآية 37 " .
وقد ورد النهي عن العجلة في نصوص الكتاب والسنة ، وفي أقوال السلف ، والحكماء ، والشعراء ، - والمقصود بالعجلة هنا في غير أمور الآخرة - .
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ). "القيامة الآيات من 16 : 19 "
فأمره سبحانه بعدم العجلة ، وذلك بمسابقة المَلَك "جبريل " في قراءته ، وتكفل له سبحانه وتعالى أن يجمع له القرآن في صدره ، وأن ييسر له بيانه .
وقال سبحانه وتعالى : (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ). " طه 114 "
وبين تعالى أن العجلة من طبع الإنسان ؛ لتنبيهه على ضرورة التعامل بضدها ، فقال عز وجل : (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ). "الإسراء 11)
وأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتأني في جميع الأمور ، والتثبت منها ، فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ). "الحجرات 6 "
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ). " النساء 94 "
وكما يقول الشهيد سيد قطب عن الإنسان والعجلة [ ...فالعجلة في طبعه وتكوينه . وهو يمد ببصره دائماً إلى ما وراء اللحظة الحاضرة يريد ليتناوله بيده ، ويريد ليحقق كل ما يخطر له بمجرد أن يخطر بباله ، ويريد أن يستحضر كل ما يوعد به ولو كان في ذلك ضرره وإيذاؤه . ذلك إلا أن يتصل بالله فيثبت ويطمئن ، ويكل الأمر لله فلا يتعجل قضاءه . والإيمان ثقة وصبر واطمئنان ] " في ظلال القرآن - (ج 5 / ص 157) " .
لا تقطف الثمرة قبل أوانها
عليك أخي الداعية أن تتصف بصفة الأناة مع المدعو ، وأن لا تستعجل في تربيته ، وأن لا يكون همك الأول هو قطف الثمرة قبل أوانها ونضجها ، وإنما دع الأمور تجري بطبيعتها ، واصبر حتى تنمو البذرة ، وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين وقت القطاف ، ولتكن الأناة صفة من صفاتك لأنها صفة مطلوبة أثناء السير في الحقل الدعوي وهي صفة يحبها الله ورسوله، فلقد قال النبي r لسيدنا الأشج بن عبد القيس ( يا أشج إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة فقال : خصلتان تخلقتهما أو خلقان جبلت عليهما ؟ فقال " بل خلقان جبلك الله عليهما " فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله ) متفق عليه .
لا تعتمد على الظن
إن من الأخطاء التي يقع فيها الداعية أن يتسرع في تقييمه للمدعو باعتماده على التخمين والظن ، وعدم المعايشة له ولقد نبه عمر بن الخطاب إلى خطورة مثل هذا الأمر ، عندما شهد عنده شاهدٌ فقال: ائتني بمَن يعرفك، فأتاه برجل، فأثنى عليه خيرًا. فقال عمر: أنت جارُه الذي يعرف مدخلَه ومخرجه؟ قال: لا .فقال: كنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ فقال: لا. قال: فعاملته بالدينار والدرهم الذي يستبين به ورع الرجل؟ قال: لا. قال: أظنك رأيته قائمًا بالمسجد يهمهم بالقرآن يخفض رأسه طورًا ويرفعه أخرى. قال: نعم .فقال : اذهب فلست تعرفه، وقال للرجل : اذهب فائتني بمَن يعرفك .
استعن بخبرات الآخرين
من الأمور التي تجنب الداعية من الوقوع في الخطأ أثناء دعوته للآخرين ، أن يستعين بخبرات من سبقوه في هذا الميدان ، وأن يستأنس برأيهم ، وينهل من فيضهم ، ويقتفي أثرهم .
ولقد أمر الله سبحانه وتعالى النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يقتدي بمن سبقه من الأنبياء ، فقال تعالى ( أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده ) " الأنعام – من الآية 90" .
§ فكم من مشكلة تربوية استعصت على الحل ، وعند الاستعانة بخبرات من سبقونا في هذا الدرب ذهبت أدراج الرياح ، ولم تقف أمام خبراتهم التربوية مجرد لحظات .
§ وكم من عقبات واجهتنا في الطريق ، وعند الاستعانة بخبرات الآخرين ، محيت واندثرت .
§ وكم من تحديات قابلناها ، وحين استأنسنا برأي ذوي الخبرة ذُللت ومُهدت .
ولقد كان الصحابة – رضوان الله عليهم جميعا - يدركون مدى الاستفادة من خبرات الآخرين ، والتأني في الأمور وعدم العجلة .
ومما يدل على ذلك أن عمر بن الخطاب ، كتب إلى معاوية يعاتبه في التأني ، فكتب إليه معاوية : أما بعد : « فإن التفهم في الخبر زيادة ورشد ، وإن الرشيد من رشد عن العجلة ، وإن الخائب من خاب عن الأناة ، وإن المتثبت مصيب أو كاد أن يكون مصيبا ، وإن العَجِل مخطئ ، أو كاد أن يكون مخطئا ، وإن من لا ينفعه الرفق يضيره الخرق ، ومن لا تنفعه التجارب لا يدرك المعالي » "الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي - (ج 3 / ص 290)"
كن متأنيا ..ولا تستعجل
عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كاد صاحب الأناة أن يصيب ، أو قد أصاب ، وكاد صاحب العَجلة أن يخطئ أو قد أخطأ » " الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي - (ج 3 / ص 289) "
ومن الحكم أيضا " من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه " .
وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه - : ( لا يزال الرجل يجني من ثمرة العجلة الندامة ) .
إن الأناة عند الداعية تسمح له بأن يحكم أموره ، فلا يقدم على أي عمل إلا بعد النظر والتأمل ووضوح الغاية الحميدة التي سيجنيها ، ولا يتعجل بالكلام قبل أن يديره على عقله ، ولا بالفتوى قبل أن يعرف دليله وبرهانه الذي اعتمد عليه وبنى عليه فتواه .
فالداعية بحاجة ماسة إلى الأناة ، لما يحصل بذلك من الفوائد الكثيرة ، والكف عن شرور عظيمة ، وهذا يجعل الداعية بإذن الله -تعالى- في سلامة عن الزلل " الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى - (ج 2 / ص 225) "
إن العجلة وعدم التثبت والتأني والتبصر أو التباطؤ والتقاعس ، كل ذلك يؤدي إلى كثير من الأضرار والمفاسد ، والداعية أولى الناس بالابتعاد عن ذلك كله ، فمقتضى الحكمة أن يعطي كل شيء حقه ، ولا يعجله عن وقته ، ولا يؤخره عنه ، فالأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها ، ونهايات تصل إليها ولا تتعداها ، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر . " الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى - (ج 2 / ص 224) " .
أعطِ للزمن حظه
لابد للداعية من مراعاة عنصر الزمن في دعوته ، وكما قيل الوقت جزء من العلاج . فبعض الدعاة وبمجرد أن يستشعروا عاطفة حارة من المقبلين على الخير ، يبدؤون في إعطائهم مهمات وإلقاء كثير من التبعات عليهم ، ظناً أن هذه العاطفة تكفي لأن يحملوا التبعات ، وأن يقوموا بالمهمات ، كلا ! فلا بد أن نعطي للزمن حظه ، ولا بد أن نعطي للتدرج منزلته وأهميته ، وأن نسير الهوينى شيئاً فشيئاً ، ومرتبة فمرتبة ، فإن الأمر الذي يأتي سريعاً ، يذهب سريعاً ، والعاطفة المقبلة على الخير إذا زدناها اشتعالاً ربما تهب عليها ريح لا تلبث أن تطفئها ، ولا يعود لها بعد ذلك اشتعال من جديد .( د/ عمر بادحدح – الاستيعاب والاقتباس في الدعوة )
لا تُخدع بالمظهر
البعض من الدعاة يحكم على الناس بمجرد رؤيتهم ، وقبل أن يتعامل معهم ، ويكتشف خبايا نفوسهم .
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا ألا نعتمد على المظهر في إصدار الأحكام على الناس ، فعَنْ سَهْلٍ قَالَ مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ( مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا قَالُوا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ قَالَ ثُمَّ سَكَتَ فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا قَالُوا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا ) " صحيح البخاري "
المراجع
eyooon.net
التصانيف
أدب