حين رأيت الرجل في البرنامج الوثائقي يحاول ، مستميتاً ، إلقاء القبض على الصورة النادرة التي يعي التقاطها أشد براكين العالم ثفجراً وثورة ، أدركت سر الحضارة الغربية المتقدمة ، التي تفرخ الرموز الإبداعية القادرة على ارتياد المخاطر ، في سبيل الحصول على المشهد الحياتي الجديد ، الذي يشكل إضافة حقيقية إلى الحياة الإنسانية القائمة. فالرجل كان يتدلى من مروحية ، ممسكاً بحبال معدنية ، وهو يطالب قائد المروحية أنْ يكون فوق البركان تماماً ، وظل هكذا حتى استطاع أن يلتقط صورته البركانية النادرة.
وبالمقابل ، هناك العديد من الرموز الإعلامية الغربية ، الذين أفنوا حياتهم في كهوف جليدية للحصول على معلومة عن كائنات حية تعيش في تلك العتمة الجليدية.
إنها الحضارة الغربية التي استطاعت أن تبني صروحها العلمية والفكرية ، والاختراعات المتجددة ، بسبب هاجس الكشف ولذة المغامرة ، من دون خوف أو ارتعاشة من النتائج التي قد يدفع فيها المغامر رأسه ثمناً لهذه المحاولات.
ويعزز هذه المسلكيات عند العالم والمكتشف الغربي مؤسسات عملاقة ، قادرة على تمويل أي مشروع يهدف إلى اكتشاف الجديد والداهش. بهذه الطريقة ، وحدها ، يتم تغذية الحضارة الغربية بكل ما هو جديد.
وفي الوقت الذي تنهض فيه الحضارة الغربية وتتقدم بطريقة مستمرة ، نلحظ ان هناك حضارة تقابلها ، هي حضارة التلقي: تلك الحضارة التي تورم جسدها بسبب كسلها التاريخي ، وبقيت رابضة في أرضها تتوسل كل المنتجات الحضارية الغربية ، وهي حضارة مستهلكة - بامتياز - لكل ما هو جديد وطازج ، وتدفع مقابل ذلك كل ما تملكه من إمكانيات مادية من ثرواتها الطبيعية. وهي ذاتها الحضارة التي تعيش دولها على المساعدات التي يقدمها البنك الدولي الذي صار يحكم توجهات هذه الدول حضارياً واجتماعياً واقتصادياً ، ويؤسس لصياغات سياسية وحياتية جديدة لهذه الدول.
وفي الرمال المتحركة ، التي يغرق فيها إنسان حضارة التلقي هذه ، تحدث معظم المآسي الحياتية والدرامية التي يدفع ثمنها مجتماعات قائمة في ديدنها على الارتجاف والرعب والدم.
وحضارة التلقي هي التي جعلت الجغرافيا السياسية للعالم الثالث تقع تحت وطأة الحروب المتتالية ، والمدمرة ، سنوات طوالاً. وحضارة التلقي ذاتها هي من تجعل شعوب العالم الثالث تهمل ، تاريخياً ، تخليق وازع الكشف والاختراع عند أبنائها ، وجعلتهم يلهثون ، صبح مساء ، كي يحققوا الشخصية النموذجية للمستهلك الدولي الذي يظل في انتظار النتاج الحضاري الجديد ، كي ينقض عليه وينعم باستعماله.
إن حضارة التلقي ، التي تعيش على فائض المنتج الحضاري الغربي ، ما زالت ، وبرغم كل الضربات الموجعة والقاتلة لكيانها ، أساساً.. ما زالت تقترح النظريات الاقتصادية والخطط التقشفية كي تنقذ نفسها من هذا الوحش الخرافي الهائل ، الذي يكاد يقضم شعويها ، وما زالت تتناسى الفكرة الأساسية الأولى التي تقوم على أساسها أي حضارة ، وهي العمل الدائم والدؤوب على إنتاج الفرد الإنساني القادر على ارتكاب فعل المغامرة في بحثه عن الجديد ، وتمويل هذه المغامرة بالمال: هذه المغامرة التي لا بد أن تكون اكتشافية وقادرة على إنهاض الروح الوثابة القادرة على كشف الحجاب عن منجزات حضارية جديدة تنقلنا من جهة التلقي الحضاري المزمن إلى جهة البث الحضاري. وهذا ما تفتقر إليه حضارة التلقي.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خليل قنديل جريدة الدستور