في الوقت الذي تتقدم فيه الحضارة الانسانية بشكل شبه يومي وتقدم الاختراع تلو الاختراع ، ساعية لتعميق مساحة التحضر لدى انساننا المعاصر ، وفي الوقت الذي اعتقدنا فيه ان الانسان المعاصر قد ودع هيلمان الشعوذات الاسطورية التي ظلت تهيمن على معتقداته ومسلكياته لقرون طويلة من تاريخه.. في مثل هذا الوقت الذي يضج بالتحضر والعصرنة ، تنهض مسألة الاخطبوط الذي تم استلاله من حديقته البحرية والحيوانية كي يتم تتويجه كمتنبىء لوقائع ونتائج مباريات المونديال. وتمت تسميته عبر وسائل الميديا العالمية ب"الأخطبوط العراف".

والأخطبوط "بول" وهذا هو اسمه ، والذي يقيم في حوض الحياة البحرية في مدينة اوبرهاوزن الالمانية ، استطاع وفي بث مباشر أن يتنبأ بفوز اسبانيا على هولندا في المبارة النهائية التي ستجمع المنتخبين في بطولة كأس العالم التي تستضيفها جنوب افريقيا مساء اليوم. كما توقع الأخطبوط العراف بفوز المنتخب الالماني على نظيره الارغواني ، والظفر بالمركز الثالث.

وكان الأخطبوط "بول" قد تنبأ في بث حي ومباشر من داخل حوضه المائي بفوز المنتخب الاسباني على نظيره الالماني.

الى هنا يمكن استيعاب القصة واستيعاب هرطقات الاخطبوط "بول" ، لكن ما لا يمكن تصديقه هو تحويل قصة الاخطبوط الى قصة يمكن تصديقها ووضعها في مناخها الاسطوري وذلك عبر التداعيات التي رافقت تنبؤاته.

وقد قام الالمان وهم اصحاب الاخطبوط بحملة شعواء ضد الاخطبوط بول والدعوة الى "طهي وشي بول وأكله". ولاقت التهديدات الالمانية للاخطبوط تدخلاً اسبانياً على أعلى المستويات ، فقد عرض رئيس الوزراء الاسباني "خوسيه ثابايترو" ارسال قوة اسبانية لحماية الاخطبوط ، وقال مازحاً"أفكر بارسال فريق لحمايته". ومن جانب آخر قرر الطاهي الاسباني الشهير خوسيه اندريس ، الغاء أطباق اسماك الأخطبوط من قائمة الطعام التي تقدمها مطاعمه في الولايات المتحدة ، تكريماً للأخطبوط الالماني "بول".

بعد هذا الحضور العالمي الساطع الذي اتيح للأخطبوط "بول" ، الحضور الذي طمس حضور الجوع ومحاصرة الشعوب الارضية بالاحتلالات واحتلال المشهد. كيف يمكن لنا القول بأن العالم قد غادر طفولته الاسطورية والتي تأسس عليها في الاصل؟ وكيف يمكن لنا أن نصدّق كل هذا الكذب العالمي السائد في التعامل مع المشاكل الحياتية لانساننا المعاصر بدون خلفية اسطورية.

وكيف يمكن لنا أن نصدق كل هذه القشرية في التحضر؟

اسئلة كثيرة يكشفها زمن الأخطبوط "بول" وتظل اجوبتها معلقة في اذيال الاسطورة وهبلها المزمن.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خليل قنديل   جريدة الدستور