يخلد الفلسطينيون في الخامس عشر من أيار – مايو من هذا العام الذكرى الستين لنكبتهم، مجددين العهد على الثبات رغم الموت والضياع والشتات الذي عصف بهم، وحاول اقتلاعهم من الجذور، يستذكرون ما رافقها من الم وتشريد ومعاناة في خلق واقع ٍ جديد من تهجير ونزوح فيما بعد، داخل الوطن وخارجه الأمر الذي أضاف فئة جديدة للمجتمع الفلسطيني هم اللاجئون ..!! إن هذه الكلمة " لاجئ " دخلت إلى قاموس الحياة الفلسطينية بعد النكبة الأولى علماً بأن الشعب الفلسطيني قد تعرض عبر مسيرة حياته إلى نكبات متتالية، وان سميت بمسميات أخرى فما الاستيطان ونهب الأرض والجدار العنصري الذي قسم الأرض إلى (كنتونات) معزولة بأسلاك شائكة وجدران تفصل بين البلدة والبلدة، والتي أقيمت على الأرض الفلسطينية تضاف إلى سلسلة نكبات شعبنا التي لم تتوقف طوال بقاء الاحتلال جاثماً على أرضنا، سارقاً كل شيء لنا، الماء والهواء والفضاء وكل شيء يمكن ُ أن يسرق، حتى مفاتيح الأبواب العتيقة المعلقة في رقاب الكهول من الجيل الأول الذي عايش النكبة التي تذكرنا بها يحاولون سرقتها بطرقهم القذرة ..!!
مع مرور ستين عاماً على النكبة يتجدد الأمل لدينا رغم الموت الذي يشكلُ المشهد العام، بالأمس في غزة أطفال تفتت أجسادهم الطاهرة قذيفة حاقدة خرجت من فوهة دبابة صهيونية ومع ذلك لم يتوقف الموت لم يتوقف التهجير والشتات، وبالرغم من قيود الوجع الذي يربط أعناق الفلسطينيين إلا أن الإيمان بالعدالة الإلهية لم يتوقف ..!! فشعبنا مازال صامداً مجاهداً بالرغم من موج البطش العاتي الذي يحاول زجنا في بحر من الدم، قوافل الشهداء لم تتوقف والمعتقلات والسجون لم تغلق، واللاجئون مازالوا في مخيماتهم ينتظرون ذاك الوعد الرباني بالعودة إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها بالقوة وأزالها الاحتلال وأقام مكانها مدناً يهودية لا تمت للأرض بصلة، ربما يظن البعض أن هذا درب من دروب الهذيان أن نبقى معلقين بأمل قد لا يتحقق، لكن الحتمية التاريخية التي يجب ألا تغيب عن الأذهان أن التاريخ لم يسجل ولا لمرة واحدة فناء شعب برغم كل التنكيل الذي من الممكن أن يمارس بحقه، تبقى الحتمية بزوال الاحتلال الأقرب إلى التحقق، نعلم أن الاحتلال يمتلك من القوة والبطش ما لم تذكره الكتب، ونعلم أيضا أن قوى الشر العالمي ممثلةً بأمريكيا وحلفائها يقدمون كل ما يمكن أن يقدم حتى تبقى إسرائيل موجودةً جسماً غريباً في جسد الأمه، لكن بالمقابل لا بد وللجسم الأكبر أن يطرد كل الأجسام الغريبة التي تسكنه...
ها نحن نفتحُ صحائف العام الستين للموت ونفتح صفحات ٍ أخرى في تاريخ اللجوء القسري وألم الذاكرة الذي لا ينضب موزعين في المنافي ومخيمات اللجوء في دول الجوار لا يحركون ساكنا ً، كي لا تغضب منهم الأنظمة التي تتحمل المسؤولية الأولى عن نكبتهم، لاجئون يطردون بالقوة إلى الحدود كي يموتوا في العراء أو ينتظرون ترحيلهم إلى دول أخرى كالبرازيل التي فتحت لهم أرضها في الوقت الذي تنكر لهم أبناء العروبة والدين فلم يبالوا بمن لجأوا إلى الحدود باحثين عن لحظة أمان علها تمنحهم أملاً آخر في البقاء أحياءً على وجه الأرض يبتلعون غمهم ويجترون وجعهم ينتظرون فجراً آت ٍ بالعودة إلى مسقط رؤوسهم التي طالما منوا النفس بها .
من الصعب على الذاكرة أن تحتفظ على شريطها الملبد بالألم بكل مشاهد الوجع التي مرت بالشعب الفلسطيني لأنك عندما تتنقل ُ بين المشهد والمشهد لا تجد إلا الموت عنوناً لمَ تشاهده، ومع ذلك فان الذاكرة الجمعية الفلسطينية بقت محتفظةً بكل ما مرَّ على الأرض من أحداث ولم تفقد من ألقها شيئاً، بالعكس اعتبرت أن هذا الموت الذي يطوقها من كل جانب هو التاريخ الحقيقي للشعب الفلسطيني لذا يجب عليها أن تبقى تسجلُ عبر شريطها الطويل بمداد الدم كل المشاهد المرعبة .. والمفزعة .. وكل دروب المعاناة التي يسلكها الفلسطينيون في حياتهم اليومية، ليس صعباً على الذاكرة ِ وان تعددت المشاهد أن تحتفظ بها كما هي لكن الأهم أن تكون لدينا الرغبة في توثيقها وعرضها للأجيال القادمة كما هي دون أن يضاف إليها شيء، بالرغم من كل المؤامرات التي تحاك ُ في السر والعلن لطمس هويتنا الوطنية، وللمساومة على حقوقنا التاريخية وعلى رأسها "حق العودة" بالترغيب أو الترهيب، أظن أن ستين عاماً من الترهيب لم تفلح في شيء بالرغم من كل القمع الذي مورس على شعب لا يملك ُ إلا إرادة البقاء وشيئاً من الكرامة التي فقدتها الأمة وأصبح نادرَ الوجود إلا على هذه الأرض التي ترتوي يوماً بعد يوم بالدماء الزكية، كما أن كثيرا من بوادر مؤامرات الترغيب وئدت في مهدها فالمساومة على حق العودة امرٌ من المستحيل القبول به مهما كان الثمنُ مرتفعاً ومهما وجدت من الأصوات النشاز تدندن له ..
ها هم يعدون العدة للاحتفال بعيد استقلالهم المزعوم، والجديد في الأمر ان الرئيس الامريكي بوش سيكون شاهداً على ذكرى ذبحنا محتفلاً معهم لان امة الإجرام واحدة..!! وها نحن نشحذ الهمم لنخلد الذكرى الستين لنكبتنا، ذكرى موت جزءٍ وتهجير جزء آخر ومع ذلك فما زلنا أحياءً نتنفس الهواء، برغم كل ما حدث من تآمر ونذالة ٍ وخناجرٍ غرست في خاصرتنا، خلال ستين عاماً تضاعفنا ديموغرافياً أضعافاً برغم الموت والدمار، أما هم فهم يتناقصون حتى مع الترويج للهجرة اليهودية الى فلسطين، وهم الان برغم قوتهم وعنجهيتهم يحسبون حساب العامل الديمغرافي الذي بعد عدة أعوام سيقلب المعادلة، وهو المسمار الاخير في نعش (دولة) الاحتلال ..
ستون عاماً نموت من أجل وطن .. من أجل شعب وأرض ومقدسات، رغم كل ما أصابنا من ذبح بشع ٍ وإبادة مبرمجة لم نفقد البوصلة التي توجهنا نحو الهدف ولن نفقدها أبداً مهما ساءت الظروف حتى لو بلغت القلوب الحناجر، نقول لهم باقون هنا ولن نرحل، أما أنتم فارحلوا من أرضنا من نبعنا من مائنا فان المستقبل لنا، أما هم فإنهم يموتون من أجل لا شيء، نحن نعشق الموت والشهادة وإلا لما قدمنا آلافاً مؤلفة من الشهداء ممن ساروا على مذبح الحرية ولم نتوقف، هذا هو الهدف الأسمى لوجودنا وبقائنا الموت من اجل كل شيء مقدس ونبيل، نحن مقتنعون تماماً بعدم توازن القوى لكن البقاء لمن يصمد حتى النفس الأخير ، وباعتقادي هناك الكثير الكثير مما يمكن ان نضحي من اجله أرض .. طاهرة .. وإنسان صبور قهر الموت فاستحق ان يُخَلَدَ في الذاكرة..
المراجع
pulpit.alwatanvoice.com
التصانيف
أدب مجتمع