في نفس السرير.. للمرة الثانية في أقل من شهر ترقد جدتي في المستشفى جسداً ضعيفاً تجتاحه أنابيب كثيرة وإبر.. قِوى خائرة وعيونٌ مسمّرة في السماء كأنها تنتظر ملكاً يخطفها من عالم حسّي مظلم إلى عالمٍ نوراني فيه من عسل مصفّى وشراب لذّة للشاربين.. تسمّر الأهل حولها.. الكلّ يترقّب خبراً يُعيد الطمأنينة إلى الأفئدة التي يهزّها الخوف من المجهول.. هل ستنجو هذه المرة؟! وأنا بدوري أقف إلى جانبهم أنظر إلى وجهها المطرّز بكل أنواع التعب وأخشى ناقوساً يدق لم أسمعه مذ غاب جدي ووالدي في غياهب الأرض وواريا الثرى.. ودموع الخوف أبَت إلا أن تطفح مِن على الوجوه لتسرد نهاية قصةٍ طالت لعقود وعقود..
وبالرغم من أنها فقَدَت الذاكرة إلا قليلا واستولى الزهايمر على عقلها إلا أنها لا زالت تأسر قلوبنا التي وعَت على عطفها وحنانها وعطاءاتها.. ولربما كان تشبّثنا بوجودها نابعاً من الحنين إلى الماضي وإلى أيام طفولةٍ بريئة تسرّبت حين كشف الزمن اللثام عن أنياب السنين التي هجمت بعد الطفولة فاشرأبّ الألم فيها وتحكّم!
تجول خيالات أمامها فلا تدرك من تكون أو تميِّز وجهاً أو تعرف صوتاً فتجدها تردِّد نفس السؤال منذ شهور لكل من يقترب منها: "من أنت؟" فتختفي البسمة على وجه مَن أمامها وتخور!
إنّه أرذل العمُر والمرء فيه يكون أضعف من الصغير.. إذ أن الطفل تكلّمه وتعلِّمه وتربّيه وتفرح إن استجاب لك ووعى.. ولكن هذا الكبير الذي لم يعد يفقه شيئاً ولا يتقبّل التعلّم أنَّى لك أن تُعلي صوتك عليه أو تعلِّمه وهو على شفا حفرةٍ من الموت؟
إن الحكاية برمَّتها تقتصر على أنها فتنة وابتلاء لأهل هذا العجوز الذي غاب عقله وبقي جسده صاحياً يئن من الضعف والوجع.. فهل سيشكو مَن يراعيه؟ هل سيرفض الواقع ويتذمّر ويزمجر من العبء المُلقى على كاهليه؟ هل سيتكدّر من تغيير مشاريعه حال وقوع العجوز صريع المرض؟ أم سيرضى ويخضع طوعاً وراغباً بغية رضا ربٍّ كريم ليجد ما يحب في صحيفته يوم تبيَض وجوه وتسود وجوه؟!
آهٍ يا جدتي كم اشتقتُ لجلساتنا الطويلة معاً واحتسائنا الشاي على شرفة منزلك الجميل.. أنظر إليك الآن لأراك تتساءلين من أنا؟! وها هي السنوات تمرّ أمامي وكأنّها ومضة ذكرى.. أراكِ من نافذة تطلّ على الماضي وأنتِ تراعين وتربّين وتخافين على هذا وتشاركين فرح ذاك.. كان أكثر ما يدهشني فيك شغفك بزوجك واهتمامك به وسعيك لمرضاته.. أتذكرين ما كنتِ ترددين لي دائماً: "هو جنّتي وناري.. لذلك أسعى لتوفير كل سبل الراحة له" فعشتِ معه أكثر من خمس وستين عاماً عامرة بالسعادة والمحن التي كنتِ تتعدّينها معه بصبر وثبات فالركيزة والأساس كانا ما أمر به الله تعالى: مودة ورحمة! كنتِ تعشقين التطريز والخياطة وتحرصين على إهداء أولادك وأحفادكِ ومَن تحبين أشياء من صنعة يديكِ.. وكنا نفرح بها.. جداً.. وما زال يرنّ بمسمعي كلامكِ وأنت تنهرينني لأني لم أتعلم الخياطة! فكيف سأصنع إن اضطررت إلى خياطة زرٍّ منزوع من قميص زوجي حين أتزوج!.. فكنتُ أمازحكِ قائلة: "سآتي به إليكِِ لتخيطيه" ولكني لم آتيكِ.. ولربما تغيبين من قبل!
أوّاه جدتي.. بعد عمر طويلٍ من خدمة أهلكِ أصبحتِ مجرد جسدٍ مسجّى.. يرعاكِ مَن رعيتيه أنتِ يوماً.. أشفق عليكِ من كل تلك الأنابيب وأتوجس خيفةً من فقدان هذا النبض الحنون.. أبتسم لكِ كلما تلاقت نظراتنا لأهديكِ رحمة قد تحتاجينها في لحظات ألم.. وألمس كل حين يدَيْكِ لألتمس بعض دفءٍ ينبّئ بأن الحياة لا تزال تسري في شرايينك..
تردِّدين طوال الوقت كلمةً وآية.. فأنتِ بين ذكر "يا رب" وبين ترتيل "فلا تقل لهما أُفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما"
من الذي أنطقكِ هذه الكلمات؟! ويكأنّه ربي جلّ في علاه قد أجرى هذه الكلمات فقط على لسانكِ كي لا نتأفّف منكِ إن طال مقامكِ على فراش المرض.. وأنتِ عاجزة عن أي شيء! ولعلكِ تكونين لنا باباً إلى الجنّة يوشك أن يُغلَق..
أنظر إلى عينيكِ لأرى سخافة الحياة المدجّجة بكل جميل مقنّع! يا لهذا العُمُر المكلَّل بالموت ويا لهذا الإنسان الذي يرديه طريح الفراش علّة أو نصب.. فيعود إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علمٍ شيئاً.. وليصبح عبئاً على مَن كانوا هم عبئاً عليه! هي هذه معادلة الحياة.. "كُن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".. وإن كان نوحٌ الذي عاش مع قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً قد قال حين سئل كيف وجدت الدنيا؟ فردَّ: كدار لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر! فما حالنا نحن وقد قال الحبيب عليه الصلاة والسلام "أعمار أمّتي ما بين الستين إلى السبعين.." أفلا تكون وقفة رضا وصبر وخدمة من أفنوا عمرهم في خدمتنا..
و.. "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير.. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور"..
صحوتُ من رحلتي في مكنون هذه الحياة على صوتٍ يردِّد: يا رب! فأكملتُ الدعاء أن يا رب.. إن كان مرضاً يعقبه شفاءٌ فابرأها بحولِك وقوتك.. وإن كان مرض الموتِ فخفِّف عنها وتلطّف فيما جرَت به المقادير!
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع