"الأنسنية"، مصطلح يعتمده المؤلف في هذا المقال للدلالة على النزعة الإنسانية القائلة بأن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود، تمييزا لها عن "الإنسانيات" باعتبارها مادة الدراسة الجامعية التي تُعنى باللغات والفنون والآداب والتاريخ، أو بمعنى أكثر حصرا باعتبارها دراسة المؤلفات الكلاسيكية الإغريقية والرومانية. وكذلك تمييزا لتلك النزعة عن "الإنسانوية" التي تستخدم للدلالة على الميل أو النزوع إلى الإنسانية أو ادعائها. ويعود الفضل في نحت مصطلح الأنسنية ( كمرادف للمصطلح الغربي Humanism ) للأستاذ فواز طرابلسي، في إطار ترجمته لآخر مؤلفات المفكر الراحل إدوارد سعيد، وهو كتاب (الأنسنية والنقد الديمقراطي)، فقد اقتضت الترجمة الوافية نحت مصطلح عربي يستوعب كافة المضامين الفكرية التي أودعها إدوارد سعيد كتابه الأخير، والتي تُبرز تطوره الفكري والأدبي وقد تأوج في التزامه النهج الأنسني (1).
ومن الصعب علينا فهم دلالة مصطلح الأنسنية حق الفهم، بمعزل عن المشكلات الإنسانية والظروف التاريخية التي مرت بعصور من استخدموه من مفكرين وفلاسفة، وهو ما يحتم علينا تتبع البدايات الأولى لاستخدامه. فقد أُطلق هذا المصطلح، أول ما أُطلق، للدلالة على الحركة الفكرية التي يُمثلها المفكرون الأنسنيون Humanists في عصر النهضة، من أمثال الشاعر الإيطالي الكبير فرنشسكو بتراركه ورفاقه (*). وهي حركة أوضح سماتها السعي إلى الإعلاء من سلطان العقل، ومقاومة السلطة والجمود، وسبيل أنصارها التمرد علي قيود القرون الوسطى وتحطيمها (2).
ويظل اقتراح المفكر المصري إسماعيل مظهر باعتماد النشورية، وليس الأنسنية، ترجمة للمصطلح الغربي Humanism، وكذلك اقتراحه اعتماد النشورى، وليس الأنسني، ترجمة للمصطلح الغربي Humanist، الأكثر تعبيرا عن مضمون تلك الحركة الفكرية المشار إليها سلفا. فالنشورية من النشور بمعنى البعث، وبالتالي هي الأكثر تعبيرا عما قصد إليه المصطلح الغربي من إحياء الآداب القديمة وبعث الإنسان من رقاد القرون المظلمة (3).
والحركة الأنسنية أو النشورية في مطلع عصر النهضة، شأنها في ذلك شأن أي ثورة ثقافية أخرى، أعادت تقييم الأوضاع السائدة في العصر الوسيط، ثم لم تلبث أن تحدت المعنى الذي خلعه على الوجود زعماء اللاهوت في ذلك العصر. وكانت الشرارة الأولى في الثورة نهوض جماعة من المفكرين الأنسنيين أو النشوريين، أعلنت تفسيرا للحياة يتفق مع المفاهيم الآدمية والإنسانية. وبطبيعة الحال جاء ذلك الإعلان على استحياء أول الأمر، غير أنه لم يلبث أن أضحى أكثر جرأة فيما بعد. إذ مضت تلك الجماعة الأنسنية قُدما في تحدي الازدراء الذي نظر به رجال الدين المسيحي في العصر الوسيط إلى عالمنا، وأكدت جزما أن الأرض مقام جميل طيب، وأن الوجود الإنساني هبة ثمينة للغاية، وأنه ليس أمرا عرضيا وبغيضا كما يُروج لذلك تجار الآلام. ولما كان للقدامى نفس الوضع، فان الأنسنيين التجئوا لدعم منطقهم الجريء إلى نفوذ الإغريق واللاتين، ومن ثم اتخذت الحركة الأنسنية من زاوية تلك الحاجة شكل إحياء التراث القديم. ويمكن اعتبار أولئك الأنسنيين الثائرين، ابتداء من بتراركه، جماعة من المجددين، اتصفوا بالإدراك والتبصر، ونجحوا على تردد بعضهم في سحق قيود القرون الوسطى، صارخة عقولهم قبل ألسنتهم: " أيتها الحرية .. إننا نعشقك " (4).
على هذا النحو انطلقت الحركة الأنسنية قوية فاتحة، وساعد على ذلك اختراع آلة الطباعة، رغم استقبال الأنسنيين لهذا الحدث ببرود يماثل برود استقبالهم لحدث آخر لا يقل أهمية، وهو الاستكشافات الجغرافية. فليس ثمة شك في أن الأنسنيين الثائرين، كانوا أبعد عن أن يبتهجوا باختراع الطباعة! بل انهم عادوها في البداية! ولدينا مثل واضح على ذلك، ضربه لنا فسبزيانو دابستيتشي، وهو أحد ذوي الأفكار النبيلة في القرن الخامس عشر. فمع أن فسبزيانو تُوفي في عام 1498 فقط، أي في وقت كان فن الطباعة قد بلغ فيه درجة طيبة من التقدم، نراه وقد ظل يتوجس من الطباعة إلى نهاية عمره. ليس ذلك فحسب، فقد ذكر فسبزيانو أن واحدا من حماته ونصرائه، وهو الدوق أوربينو، كان يخجل أن يمتلك كتابا مطبوعا. والحق أن هذا الموقف أصبح مستحيلا في القرن التالي، لأن الأنسنيين رأوا أن آلة الطباعة لم تعد عدوتهم، فبفضلها راحت كتبهم تنتشر في كل الأوساط بسرعة البرق. لأنه إذا كان نسخ الكتاب قبل اختراع آلة الطباعة يستغرق أسابيع عديدة أو شهورا، فان طباعته وبمئات النسخ بعد اختراعها أضحت تتم بين عشية وضحاها (5).
وفضلا عما أسداه اختراع آلة الطباعة للحركة الأنسنية من عون، عمد الأمراء الإيطاليون بدورهم لدعم الأنسنيين ماديا ومعنويا. بل وحموهم كذلك من ضغط الكنيسة والعامة! وذلك لأسباب يخرج ذكرها عن نطاق اهتمام المقال الماثل، الأمر الذي ساهم بقوة في دعم الحركة الأنسنية في عصر النهضة، إذ لم يكن أولئك المدعومين سوى الطليعة الثورية للحركة. ففي مدينة فلورنسا التي أنجبت أشهر الرسامين والفنانين، وبفضل مساعدة الأمراء، راح المفكر الأنسني مارسيليو فيشينو يترجم أعمال أفلاطون وتلامذته. وكذلك تشكلت أول أكاديمية علمية في مدينة فلورنسا، هاجر إليها كبار علماء بيزنطة بعد سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح. وللأسف تعصبت الأكاديمية لفكر أفلاطون إلى حد أنها منعت تدريس فكر أرسطو الذي دخل إلى إيطاليا عن طريق الفلاسفة العرب، كابن سينا وابن رشد. ومن إيطاليا انتشرت الحركة الأنسنية في ألمانيا وهولندا، ومنهما إلى فرنسا. وعندما عارض رجال الدين المسيحي دخول مؤلفات الفلاسفة المسلمين، بحجة أنها آتية من جهة أعداء المسيحية، قال لهم الأنسنيون الثائرون: " هذا الفكر يشكل جزءا لا يتجزأ من التراث الإنساني، ونحن بحاجة إليه، وسوف نأخذ به ونستفيد منه، أيا تكن الجهة التي جاء منها! " (6) .
حقيقة أن المفكر الأنسني في عصر النهضة لم يكن رجلا محيطا بما كتب القدماء، مستمدا وحيه منهم فحسب، بل كان رجلا قد فتن بالقدماء فتونا جعله يقلدهم في حياتهم ويحاكيهم في قناعتهم، ويقتدي بهم في لغتهم وتفكيرهم. ولا جرم أن حركة كهذه متى أوغل فيها أصحابها إلى أقصى حدودها المنطقية، كانت خليقة أن تتجه إلى النيل من رجال الدين المسيحي بحدة وقوة. وهو ما ساعد منذ ذلك الحين على شيوع القول بالتعارض بين الحركة الأنسنية والعقيدة المسيحية في مؤلفات الأنسنيين وكتاباتهم. بيد أن الاستعمال الفلسفي لمصطلح "الأنسنية" يتصف بالحداثة النسبية، ولو أنه برزت خلاله اتجاهات فلسفية عديدة ودقيقة في تعريف المصطلح، التقت جميعها على تثمين الإنسان بوصفه أعلى قيمة في الوجود، غير أنها تفاوتت في إيمانها بقدرته منفردا على تجاوز آلامه وبلوغ طموحاته، تحدوها في ذلك مؤثرات عديدة لا مجال لذكرها أو حتى التنويه عنها. ويعد الرواج العظيم الذي لقيه مصطلح "الأنسنية" مسئولا بشكل أو بآخر عن زيادة الاختلاف في معانيه عند مستعمليه من أصحاب الاتجاهات الفلسفية المختلفة، فضلا عن كونه مسئولا كذلك عن كثرة الاختلاط حول المصطلح، ليس في أذهان العامة فحسب، و إنما لدى كثير من الكتاب والمؤلفين أيضا.
وهو ما حدا ببعض الفلاسفة والمفكرين المأخوذين بما للأنسنية من رونق وجاذبية لبذل جهود حثيثة في صياغة خصائص بعينها لما اصطلحوا على اعتباره "أنسنية عالمية"، اعتقدوا في تجاوزها للاختلافات والتناقضات الواردة في التعاريف المختلفة للأنسنية، إلى جانب اعتقادهم في تمييزها للفلسفة الأنسنية عما عداها من فلسفات. وذهبت تلك الجهود، على تنوعها، إلى أن الأنسنية نهج يحترم الإنسان وينزله المنزلة اللائقة به، فهى تقول بالانسان كأعلى قيمة في الوجود، كما أنها تهدف إلى التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. ففي رحاب الأنسنية لا يوجد سوء تأويل لا يمكن مراجعته وتحسينه وقلبه رأسا على عقب، و لا يوجد كذلك تاريخ لا يمكن استعادته، إلى حد ما، وفهمه بشغف بكل ما فيه من عذابات وإنجازات.
وبعبارة أخرى، تنسف الأنسنية جذريا الأطروحة القائلة بان تبجيل ما هو تراثي أو إتباعي يتعارض حتما مع التجديد المستمر للمعطيات المعاصرة. وإذا اتخذنا التاريخ كمثال، نجد أن الأنسنيين يرونه مسارا غير محسوم، قيد التكوين، لا يزال مفتوحا على حضور الناشئ والمتمرد وغير المستكشف وغير المقدر حق قدره وما يطرحه من تحديات. كما أنهم يرون أن الإنسان هو صانع التاريخ، ومن ثم فهو قادر على اكتناهه عقليا، وفق المبدأ القائل بأننا كبشر ندرك فقط ما نحن صانعوه، أو بالأحرى، نراه من وجهة نظر الإنسان الصانع، فأن تعرف شيئا ما يعني أن تعرف الكيفية التي بها صنع ذلك الشيء.
وطبقا للأنسني الفذ إدوارد سعيد، ليست الأنسنية طريقة لتدعيم وتأكيد ما قد عرفناه وأحسسناه دوما، وإنما هي وسيلة تساؤل وإقلاق وإعادة صياغة للكثير مما يقدم لنا اليوم على أنه يقينات مسلمة، معلبة، مغلقة على النقاش، ومشفرة على نحو غير نقدي، بما فيها تلك الموجودة فيما اصطلح على كونه آراء وأعمال خالدة يجري تغليفها برقائق المحرمات الثقافية. فثمة صعوبة في القول بان عالمنا الفكري والثقافي كناية عن مجموعة بسيطة وبديهية من خطابات الخبراء، فالأرجح انه تنافر مضطرب من المدونات غير المحسومة. ولكل حضارة أن تلبي روحها هذا النهج الأنسني المنشود. ولهذا علينا أن نلتمسه في الحضارات المختلفة، فخصائصه العامة تكاد تكون واحدة بين جميع الحضارات (7).
وباستخدام المعيار الأنسني، يُعد الإنسان أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع ـ خاصة في المجتمعات المتخلفة ـ هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! وباستخدام المعيار نفسه، يُعد آخرا كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. والمقصود بالثقافة هنا ما أورده الناقد الأدبي والشاعر الأمريكي المولد والبريطاني الجنسية ت. س. إليوت في مؤلفه ذائع الصيت (ملاحظات نحو تعريف الثقافة)، فالثقافة عنده طريقة حياة شعب معين، يعيش معا في مكان واحد. و تظهر هذه الثقافة في فنون أبناء هذا الشعب، وفى نظامهم الاجتماعي، وفى عاداتهم وأعرافهم، وفى دينهم. و طبقا لإليوت الحائز على جائزة نوبل عام 1948، لا يكون اجتماع هذه الأمور الثقافة، وإن تكلم الكثيرون ـ للتسهيل ـ كما لو كان هذا صحيحا. فهذه الأمور ليست إلا الأجزاء التي يمكن أن تُشرح إليها ثقافة ما، كما يمكن تشريح الجسم البشري. ولكن كما أن الإنسان أكثر من مجموع الأجزاء المختلفة المكونة لجسمه، فكذلك الثقافة أكثر من مجموع فنونها وأعرافها ومعتقداتها الدينية. فهذه الأشياء كلها يؤثر بعضها في بعض، ولكي يفهم المرء واحدا منها حق الفهم يجب أن يفهمها جميعا (8).
أقول إن الشائع ـ خاصة في المجتمعات المتخلفة ـ هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! وهو في هذا التنازل يكتسب ثقافة ليست ثقافته الحقيقية أو ما يجب أن تكون عليه ثقافته حقا، أي أنه يصبح مستهلكا لثقافة ليست من صنعه. ولعل المصدر الأساسي لالتماس الإنسان راحة ذاته في اغترابه الثقافي، هو ما يلقيه تجار الآلام في روعه، فهم عادة ما يوهمونه بأن اغترابه الثقافي فريضة يوجبها الإيمان الصحيح، ويطلبون إليه التنازل طواعية عن حقه في نقد وتطوير ثقافته، تقربا إلى الله و زلفى! وكذلك يطلبون إليه القبول بتخويل آخرين بأعينهم سلطة ممارسة هذا الحق نيابة عنه وعن غيره، وغالبا ما يستندون في ذلك إلى حجج واهية. وفاتهم أنه لا يستقيم أن يقبل من الإنسان تعطيل أثمن ملكاته وأروعها، فما العقل الإنساني ـ في أكثر الآراء رجحانا ـ إلا قبس الهي يسكن جسد صاحبه، ولولاه لعجز الإنسان عن أداء رسالته، ولظل يضرب في الحياة على غير هدى. وما تعطيل العقل سوى إبقائه قوة محافظة أساسا، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى الاحتفاظ بكل الثقافات السائدة، وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير.
وأما التماس الإنسان باغترابه إرضاء مجتمعه، فمرجعه أن تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في نقد ثقافته وتطويرها غالبا ما يتم في مجتمع يصطلح أفراده على تقدير واحترام المغترب، ويلتقون في اعتقادهم الراسخ بأن الثقافة السائدة هي الضمانة الحقيقية لصيانة هويتهم، وأنها أسمى من أن تمتد إليها أيديهم بالنقد والتطوير. فالمغتربون عادة ما يتنازلون بصورة جماعية عن حقهم الطبيعي في نقد ثقافتهم وتطويرها إلى من يرونه أحق منهم بذلك، وأقدر منهم على ارتياد ما يتصورونه طريقا وعرا ومحفوفا بالمخاطر. وغالبا ما يقف الآخر، وأقصد به كما أسلفت كل من يُدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. أقول إنه غالبا ما يقف الآخر وراء إهدار الذات المغتربة للأنسنية، أي وراء عدم أخذ تلك الذات بها، وذلك عبر سعيه المحموم لتكريس الاغتراب الثقافي للذات بكل ويلاته.
والحق أن الآخر ـ خاصة في المجتمعات المتخلفة ـ لم يكن ليبلغ لبانته لولا وجود آليات بعينها تعينه على أمره. فالاغتراب في حاجة لدعم دائم من سدنته، وليس هناك ما هو أكثر ضمانا لديمومته من وجود دعم مؤسسي دائم ومنتظم له. فبدون مثل ذلك الدعم يصير من الصعوبة بمكان الحفاظ على الرسوخ الدائم لفكرة الاغتراب في الأذهان. وغالبا ما تتخذ الصيغة المؤسسية أشكالا مختلفة، فالمؤسسية التي يقصدها الكاتب لا تعني بالضرورة بنايات ضخمة وجيش عرمرم من الموظفين وزخم بيروقراطي، ولكنها تتراوح ما بين تلك البنايات المهيبة وبين شخصيات بعينها، يُصيرها سدنة الاغتراب بحرفيتهم الدعائية ومهارة ترويجهم للاغتراب رموزا شبه مقدسة، يزعمون أن الباطل لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها، وهو ما يُيسر انقياد المغتربين إليها انقيادا أعمى.
وكما أن الصيغة المؤسسية تتخذ أشكالا مختلفة، يتسع نشاط تلك المؤسسات المعنية ليشمل مجالات عديدة. فتكريس الاغتراب الثقافي للذات لا يتم فقط عبر آليات محدودة كما قد يتوهم الكثيرون، ولكنه يتم عبر آليات عديدة ومتنوعة منها البوليسي، والتعليمي، والإعلامي، إلى جانب ما اصطلح على تسميته بالديني، نسبة إلى الدين والدين منه براء. ولا يعبر اقتصار جهود الكاتب على تعرية آليات بعينها عن قناعة الكاتب بكونها الأكثر سهولة في الرصد، بقدر ما يُعبر عن قناعته الراسخة بأنها الأكثر فعالية في ترسيخ الاغتراب في ذهنية الذات. ولنا أن نتصور كيف يغدو الاغتراب الثقافي زائرا ثقيلا حين تعوزه مثل تلك الآليات التي تفرضه أحيانا وتحببه أحيانا أخرى إلى الضحايا الأبرياء، فتصوره لهم على أنه إكليل غار فوق رؤوسهم. وفيما يلي رصدا موجزا لبعض أهم آليات تكريس الاغتراب الثقافي للذات (9):
[1] مؤسسات العنف: لا يكاد مجتمع مغترب يخلو من مؤسسات العنف، باعتبارها حائط الصد الأكثر فعالية في حماية الآخر من غضبة الذات. إلا أن تلك الوظيفة و غيرها من الوظائف الأخرى التي تشتهر مؤسسات العنف في المجتمعات المغتربة بالأداء المتميز لها، لا تعدو كونها ستارا فولاذيا يخفي وراءه وظيفة أكثر خطورة وأشد وطأة، ألا وهي الإجهاض الوقائي لأية محاولة ـ مهما بلغت ضآلتها ـ لقهر الاغتراب الثقافي وتحرير الذات من نيره الثقيل. والمعتاد أن تؤدى مؤسسات العنف تلك الوظيفة عبر الترويع الدائم للبسطاء وغيرهم بدعوى الحفاظ على تلك المجتمعات، وكأن المجتمعات لا تُصان إلا بإهدار آدمية البسطاء وتغريبهم ثقافيا. فالتجربة الإنسانية قد أثبتت أن الترويع الدائم للإنسان جعل منه ـ ولا يزال ـ فريسة سهلة للاغتراب الثقافي. وللأسف الشديد، يتورط بعض البسطاء في ارتكاب العنف، بحكم انخراطهم في مؤسسات العنف، حيث يجب أن يكون هناك من يرغب ومستعد لتطبيق السياسات نيابة عن الآخر.
[2] مؤسسات التلقين الإعلامي: أدت سيطرة الآخر في مجتمعات بعينها، خاصة المجتمعات المتخلفة، على وسائل الإعلام إلى حرمان الغالبية العظمى من أبناء تلك المجتمعات من التعبير عن آرائهم ومواقفهم، وبالتالي تكريس اغترابهم الثقافي. ورغم أنه لا يوجد إجماع في تلك المجتمعات على تحديد دور ومسئوليات الصحافة ووسائل الإعلام، إلا أن الممارسات العملية طرحت رؤية موحدة، وإن اختلف مضمونها اختلافا نسبيا. و تحدد هذه الرؤية الدور الأساسي للصحافة وسائر وسائل الإعلام في ضرورة استخدامها كأداة في يد الآخر، وذلك للقيام بدور الشرح والتفسير والتأييد لقراراته، أكثر من كونها أداة للنقد والتطوير الجادين. ويلاحظ بصورة عامة أن الآخر يعتبر أي نقد موجه له على أنه مُوجه للمجتمع كله، بزعم الدفاع عن النظام العام وأمن المجتمع، وهما من المفاهيم المطاطة التي تستخدم على نطاق واسع في شتى أنحاء المجتمعات المتخلفة. مما ترتب عليه غياب الرؤية النقدية الحقيقية، سواء في أجهزة الإعلام أو لدى المسئولين أو بالنسبة لتلك المجتمعات المقهورة المشار إليها.
[3] المؤسسات التعليمية: تُعد المؤسسات التعليمية بكافة أشكالها واحدة من أهم وأخطر آليات تكريس الاغتراب الثقافي في المجتمعات المتخلفة، إن لم تكن أخطرها على الإطلاق. فالرحلة التعليمية عادة ما تبدأ بتهيئة الطفل لدخول نفق الاغتراب المظلم، عبر منهج منظم وصارم. وقد تتكفل الأسرة أحيانا بإنجاز تلك المهمة البائسة، فيدلف الطفل إلى مدرسته وقد هُيئ تماما لحياة الاغتراب الثقافي. غير أن الأكثر شيوعا أن تتضافر جهود الأسرة والمدرسة في تهيئة الطفل في سنواته المبكرة لأن يصبح مغتربا ثقافيا، فالوالدان المغتربان غالبا ما لا يدخران جهدا في تلقين وليدهما أبجديات الاغتراب في سن مبكرة، والأرجح أنهما يسقياه إياها مع لبن الأم ، دون أن يدركا ـ بالطبع ـ مدى جنايتهما على وليدهما، لاعتقاد راسخ لديهما بحتمية تأهيله للتعاطي الكفء مع ذاته ومع مجتمعه المغترب. وفاتهم أنهم بذلك يدمرون قدراته النقدية والإبداعية ويحيلونه مسخا مشوها، لا سلطان له على ثقافته، فلا يملك لها نقدا ولا تطويرا. ثم لا تلبث المأساة أن تكتمل عندما تضطلع المؤسسات التعليمية الأخرى بمهمة تكريس هذا الاغتراب وترسيخه .
وقد يقدح تجار الآلام في صحة ما ذكرنا، فيحتجون بمعدلات الأمية المرتفعة في المجتمعات المتخلفة، ويتخذون منها حجة لدحض قول الكاتب بأن المؤسسات التعليمية تكاد تكون أهم آليات تكريس الاغتراب الثقافي وأخطرها. ولهؤلاء أقول أن الاحتجاج بارتفاع معدلات الأمية مقولة حق أُريد بها باطل. فالكاتب لم يقصد بمصطلح المؤسسات التعليمية الإشارة للمدارس والجامعات والمعاهد فحسب، ولكنه قصد أيضا الإشارة إلى بيت الأسرة باعتباره المؤسسة التعليمية الأولى والأكثر تأثيرا في الطفل. وهو ما يدحض مزاعم المشككين في مسئولية المؤسسات التعليمية عن تكريس الاغتراب في المجتمعات المتخلفة، استنادا إلى ارتفاع معدلات الأمية. علاوة على ذلك، تثبت الخبرة الإنسانية ـ يوما بعد يوم ـ أن الأمية نفسها تجبر صاحبها وتؤهله تلقائيا لدخول نفق الاغتراب المظلم، فالأمي غالبا ما يفتقد القدرات اللازمة لتمكينه من تجنب الاغتراب الثقافي أو قهره، وذلك لأسباب عديدة، أهمها اعتماده الدائم في المعرفة على المغتربين المحيطين به، إلى جانب ركونه الدائم في استقاء معلوماته إلى الوسائل المسموعة والمرئية، التي تخضع بدورها لسدنة الاغتراب كما أسلفنا. وأخيرا، ألا يجوز القول بأن ارتفاع معدلات الأمية مقصودا لذاته، فمن يجني ثمار أمية البسطاء غير الآخر؟ ثم، أليست الأمية وسيلة رخيصة وسهلة لتكريس الاغتراب الثقافي، على خلاف المؤسسات التعليمية التي يتطلب نهوضها بتلك المهمة جهودا كثيرة و نفقات باهظة ؟! على أية حال، يظل الكاتب على قناعته بأن المؤسسات التعليمية في المجتمعات المتخلفة، بما تنتجه من تعليم رديء، تساعد بقوة على الزج بمزيد من الضحايا الأبرياء في نفق الاغتراب المظلم، وتحول بإصرار لا يكل دون خلق أجيال جديدة قادرة على هدم حائط الاغتراب الصلد الذي يحول بين المغتربين وبين استرداد حقهم الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة.
[4] محترفو التبرير الديني: لعل في حيرة المرء وتردده إزاء صياغته لهذه الجزئية المهمة والخطيرة، دليلا حيا على عمق مأساة الاغتراب الثقافي و خطورتها، فالمرء يخشى ـ والحق معه ـ أن يجد تجار الآلام، وما أكثرهم في كل زمان ومكان، سبيلا إلى تحريف مضمون كلماته والعبث بها، خاصة وأن لهم خبرة لا يستهان بها في التعاطي مع المغتربين وخلط الأوراق أمام عيونهم، على نحو مذهل ومتفرد، قلما توفرت لغير الآخر. فهيهات أن تجد إنسانا غير مغترب يرفل في غلائل بالية، وهو بها راض، لا يطيق لها تبديلا! وهيهات أن تجد إنسانا غير مغترب يحسب مأساته فردوسا، يُقاتل من أجله حتى الموت! وهو ما يقوم دليلا على مهارة وحرفية الآخر في هذا الصدد. يقول الكاتب هذا وفى نفسه غصة لا شفاء منها، فما أسهل أن يدير القارئ البريء ظهره لكلماته تلك، استجابة لغواية تجار الآلام وزعمهم الماكر بتعارضها مع المقدسات. فأي مقدسات تلك التي تبيح لهم الزج بالأبرياء في آتون الاغتراب وترسيخهم الآثم في أذهانهم أن المألوف هو دائما الحق وأن مخالفة الآراء الشائعة لا يجوز، حتى لو ثبت خطأها؟!
أقول إن الآخر في كل بقعة مغتربة يبدي حرصاً محموما وصارماً على توفير الغطاء الديني لممارساته، بغض النظر عن مشروعية تلك الممارسات، مستغلا في ذلك انصياع تجار الآلام المتشحين بعباءة الدين لتوجيهاته. فلا يكاد يوجد آخر ، إلا وقد أحكم قبضته على حظ طيب ممن يعتبرهم البسطاء رموزاً دينية. لإدراكه أنه بدون تبرير هؤلاء لممارساته، يغلي مرجل الغضب في صدور البسطاء، ويصبح وجوده مهدداً. ولعل الاغتراب الثقافي يتجلى أكثر ما يتجلى في الانقياد الأعمى من جانب المغتربين لدعاوى أولئك التجار الذين يخدمون بدورهم مصالح أسيادهم، حتى لو جاء ذلك على حساب آلام المغتربين وأوجاعهم. ونظرا لما يُحيط به الآخر هؤلاء التجار من أسباب الإجلال والتكريم، بزعم صلاحهم وتقواهم، يبيت عسيرا النيل من مصداقيتهم في عيون المغتربين، لدرجة تجعل أية محاولة للتشكيك في تلك المصداقية جريمة مخزية، يدفع صاحبها ثمنها غاليا. فغالبا ما يُغري الآخر المغتربين بذلك البائس فيذيقونه الهوان أصنافا، أو يتكفل هو به، وساعتها يجنى الآخر الثناء الجزيل من المغتربين! وغالبا لا يكتفي الآخر بأولئك التجار، فيعمد لإحكام سيطرته على مؤسسات دينية بعينها.
على أية حال، يرى الكاتب فيما سبق ذكره مدخلا ملائما للقول بأن تطور التاريخ الإنساني لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول صراعا ثقافيا، استنادا لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة ـ السابق ذكره ـ بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فاحتياجات الإنسان كما أسلفنا ليست مادية فحسب، فهي تتجاوز الاحتياجات المادية، على خطرها وأهميتها. وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها، فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يغذيه الآخر كما أسلفنا ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي لمحو هويتها الثقافية.
والمأساة أن مهارة الآخر في هذا المضمار لا تُبارى، فهو دائما ما ينجح في تكريس اغتراب الذات واستعدائها على الذات الأنسنية، والذاكرة الإنسانية مليئة بالحوادث المؤكدة لذلك، وهي حوادث دموية ولاإنسانية في مجملها، يندى لها الجبين الإنساني. ولا غرو أن مأساة انقسام الذات على نفسها تضع المراقب في حيرة من أمره. فالجزء الأكبر من الذات يجهل أو يُعرض عن الأنسنية ويُباهي باغترابه الثقافي ويُعول في خلاصه على الآخر، بينما يتكبد الجزء الأصغر من الذات والمهمش دوما آلاما قاسية، فهو يدرك الأنسنية ويسعى جاهدا لتبصير الذات بضرورة الأخذ بها كنهج حياة، لكنه يواجه شراسة الآخر الذي غالبا ما يُوكل مهمة التنكيل به إلى الذات المغتربة! وهو ما يُسهم بدوره في تعقيد الصراع.
والتاريخ الإنساني الذي يرويه ـ في أغلب الأحيان ـ الآخر القوي ويلقنه للذات المغتربة الضعيفة في دأب وجلد يُحسد عليهما، لا يمل استعداء المغتربين على تلك النفوس النبيلة، التى تظهر في لحظات أو حقب متناثرة عبر العصور المختلفة، وتأبى إنسانية أصحابها ألا تستأثر لنفسها ـ أقصد تلك النفوس النبيلةـ بإدراك الأنسنية، وألا ترفل وحدها في غلائل ذلك الإدراك، في وقت تشقى فيه الذات المعذبة باغترابها، فنراها تعمل جاهدة على تعرية الآخر وتبصير الذات المغتربة بالأنسنية ومزايا الأخذ بها كنهج حياة، هادفة بذلك لرفع نير الاغتراب عن كاهلها، وتعليمها أن آلامها ليست قدرا محتوما و إنما هي صناعة أيديها وأيدي الآخر. وهو ما يدفع الآخر، وما أقواه في كل زمان ومكان، لمناصبة تلك النفوس النبيلة والطاهرة العداء والتنكيل بها علاوة على اتهامه لها بكل رذيلة وإلحاق ذكرها بالاستهجان والإدانة و السب، حتى يهيئ للمرء أنها شياطين في صيغة بشرية، والحق أن أصحابها أشرف من وطأت أقدامهم ظهر الأرض.
إنهم أنسنيون أبت عليهم نفوسهم النبيلة مشايعة الآخر في إثمه، فراحوا يبشرون بالأنسنية كيفما تسنى لهم، وراحوا كذلك يُعرون الآخر، لترى الذات المغتربة قبحه، المستتر وراء منطقه الكاذب وكلماته المعسولة. ومن المضحكات المبكيات أن هؤلاء الأنسنيين وقد قاموا في العصور المختلفة يحدون الذات المغتربة نحو قهر اغترابها وخلاصها، لم يسلموا من أذاها! فعجبا لمحكوم بالإعدام ينتصر لجلاده ويموت دونه! وعجبا لجلاد يغري ضحيته بصلب من ينشد خلاصها! الحق أن الآخر أجاد وأبدع أيما إبداع، حتى أن المغتربين دائما ما يعولون عليه في خلاصهم! ولا عجب ، فآليات تكريس الاغتراب الثقافي تعمل ليل نهار بلا هوادة ولا رحمة، غير آبهة بعذابات الضحايا وأنينهم. فكأني بالاغتراب إلها لا يرتوي إلا بدموع المغتربين ودماءهم! وكأني بالآخر كاهنا مخلصا في معبد إله الاغتراب ، يتحدث باسمه ، ويحض المغتربين على طاعته، إلى جانب تحذيره إياهم من مغبة عصيانه والتمرد على أوامره ونواهيه!
وإذا كان الماركسيون يتحدثون عن الوعي بالصراع الطبقي، أي إدراك من لا يملك لحتمية الصراع بينه وبين من يملك كجوهر للماركسية، فللأنسنيين أن يتحدثوا بدورهم عن الوعي بالصراع الثقافي كجوهر للأنسنية، وأقصد بذلك الوعي إدراك الذات الأنسنية لمساعي الآخر الرامية لتعمية الذات المغتربة عن الأنسنية، وكذا إدراكها لجهل أو إعراض الذات المغتربة عن الأنسنية ودفاعها عن اغترابها وتعويلها على الآخر في خلاصها. فالصراع الثقافي، شئنا أم أبينا، قائم وحتمي بين الذات الأنسنية وبين غرمائها على اختلافهم، سواء تمثلوا في الآخر الآثم الذي يُدرك الأنسنية ويُؤثر نفسه بثمارها ويعمل جاهدا على تعمية الذات المغتربة عن الأخذ بها كنهج حياة، أم تمثلوا في الذات المغتربة التي تجهل أو تعرض عن الأنسنية وتدافع عن اغترابها الثقافي وتُعول على الآخر في خلاصها. بيد أنه على خلاف الماركسية القائلة بأنه لا مكان في انتصارها لمن يملك، نقول إن في انتصار الأنسنية مُتسع للجميع، ففيه تأخذ الذات المغتربة بالأنسنية كنهج حياة، وتقهر بذلك اغترابها الثقافي، أما الذات الأنسنية المنتصرة فلسوف تكتفي بتجريد الآخر من أُخرويته وتمنحه عفوا كريما، فهي لا تعادي الآخر ولا تكرهه، ولكنها تعادي أخرويته وتحرص على تجريده منها، ليصبح بدوره ذاتا أنسنية نبيلة، تأخذ بالأنسنية وتعمل على تبصير الغير وحثه على الأخذ بها.
وفي صراعها الثقافي مع الأخروية والاغتراب، يُناط بالذات الأنسنية تدعيم جبهتها في مواجهتهما، بشتى السبل والوسائل المتاحة، فالأخروية هي السادن القوي والعنيد للاغتراب الثقافي للذات، وفي غيابها قد يجد الأنسني سهولة نسبية في التعاطي مع الاغتراب وحث المغتربين على قهره وتبني النهج الأنسني. ورُب قائل وماذا عن قوة الدفع الذاتي للاغتراب؟ وهل هي أقل خطرا من الأخروية؟ الحق أن الاغتراب والأخروية من الخطورة بمكان، غير أن الآخر بجهوده الحثيثة والعدائية في مواجهة الذات الأنسنية، يكون أشد وأنكى، فهو يسعى لتحطيم تلك الذات النبيلة، ليُفقد الأنسنية جهودها، كما أنه يحول بينها وبين تبصير الذات المغتربة بضرورة قهر اغترابها الثقافي، الأمر الذي ينال بقوة من فرص رأب صدع الذات تحت راية الأنسنية. ويظل تقرير الأولوية الواجب على الذات الأنسنية الأخذ بها في ذلك الصراع الثقافي، محكوما بالأوضاع التي يحيا الأنسنيون في كنفها، وقدرتهم على تحديد أولويات الكفاح الأنسني.
وثمة علاقة وطيدة بين دعم الأنسنيين لجبهتهم في مواجهة الأخروية والاغتراب الثقافي وبين بناء الذات الأنسنية، فمن شأن دراسة الكيفية التى يتم بها الفعل الأخير تعميق معرفتنا بهؤلاء الأنسنيين، علاوة على تعميق معرفتهم بأنفسهم فى مواجهة أولئك الذين يُناصبونهم العداء ويرمون لإجهاض مساعيهم النبيلة لإحراز نصر فيه مُتسع للجميع، مُتسع للضحية وذلك برفع نير الاغتراب عن عنقها، ومُتسع للجلاد وذلك بتجريده من أسباب جرمه ومنحه عفوا كريما. والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة .. ماذا يعني بناء الذات الأنسنية؟! هل يعني ما يعنيه الدوجماطيقيون حين يعمدون لتعاليم بعينها يُلقنون أنصارهم إياها ويُعدونها قبسا من الحقيقة المطلقة لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو بمعنى أدق يُعدونها حقيقة مطلقة، لا مندوحة عن اعتقاد الإنسان فيها وإغلاق عقله دون ما عداها، ناسين أو متناسين أن أقصى ما يطمح إليه الإنسان إزاء الحقيقة المطلقة هو إعمال العقل في نشدانها، لا امتلاكها. وكيف لا؟! والبائن كما ذكرنا آنفا أنه قد حيل بينه وبين إدراكها بحجاب صلد ليس يمزقه سوى الموت!!
أم تُرى بناء الذات الأنسنية يعني ما يعنيه الشكاك، حين يعمدون لهدم كل القيم والفضائل وتصوير الحياة قفرا موحشا، لا سبيل فيه أمام الإنسان لتثمين إنسانيته و إقامة مملكة السلام على الأرض. الحق أن الكاتب يذكر أنه مر يوما بتجربة تعضد القول بقسوة نهج الشكاك ولا إنسانيته، فقد عمد أحدهم يوما في حضوره لهدم كل ما حواه رأس صاحبه من أفكار وقيم، فبدت في عين الأخير نظرة فزع وهلع وقال لمحدثه في ذهول: " ما تفعله شئ مرعب ومخيف!". حينئذ تأكد للكاتب مدي تعارض نهج الشكاك مع إنسانية الإنسان، كونه مؤهلا بطبيعته للاعتقاد فيما يبعث في نفسه الأمن والسكينة. وأراني ما قصدت بقولي هذا نزوعا طبيعيا في الإنسان إلى السكون والجمود، و إنما قصدت نزوع الإنسان إلى الأنسنية، وهي ثورة عقلية دائمة، لا تُفزع صاحبها، بل تُمتعه وتُقويه بما تمنحه له من ثراء عقلي، يشبه الثراء الجسدي لدى الرياضيين. وحدوثها يعني أن العقل لم يعد قوة محافظة أساسا، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى الاحتفاظ الحرفي بالثقافات السائدة، وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير.
الجدول رقم (1)
مقارنة الصراع في الأنسنية بنظيره في الماركسية
وجه المقارنة
الماركسية
الأنسنية
الجوهـــــر
الوعي بالصراع الطبقي
الوعي بالصراع الثقافي
خصائص الصراع
اقتصادي/بسيط/ساخن
ثقافي/معقد/بارد
أطراف الصراع
الذات التي لا تملك وسائل
الإنتاج، و الآخر الذي يملك
وسائل الإنتاج
الذات الأنسنية، والذات المغتربة التي تجهل أو تعرض عن الأنسنية وتدافع عن اغترابها الثقافي وتعول على الآخر في خلاصها، والآخر الذي يدرك الأنسنية ويؤثر نفسه بثمارها ويعمل جاهدا على تعمية الذات المغتربة عن الأخذ بها.
هدف الصراع
انتصار الذات
البروليتاريه، وهو انتصار ليس فيه متسع لسواها، فانتصار الذات البروليتاريه يعني بالضرورة سحق الآخر البرجوازي
والقضاء عليه.
انتصار الأنسنية، وهو انتصار فيه متسع للجميع، ففيه تأخذ الذات المغتربة بالأنسنية كنهج حياة، قاهرة بذلك اغترابها الثقافي، وكذا تكتفي الذات الأنسنية المنتصرة بتجريد الآخر من أخرويته وتمنحه عفوا كريما، فهي لا تعاديه ولا تكرهه، ولكنها تعادي أخرويته.
ويعضد التوضيح الأخير قولنا السابق بأهمية، بل حتمية النأي بالأنسنيين عما يفعله الدوجماطيقيون، حين يعمدون لتعاليم بعينها يُلقنون أنصارهم إياها ويُعدونها قبسا من الحقيقة المطلقة لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إضافة إلى تعضيد التوضيح نفسه حتمية النأي بالأنسنيين عما يعمد إليه الشكاك حين يهدمون كل القيم والفضائل ويصورون الحياة قفرا موحشا، لا سبيل فيه لتثمين إنسانية الإنسان و إقامة مملكة السلام على الأرض. وأراني قانعا بأن بناء الذات الأنسنية لا يعني سوى صياغتها بما يسمح لها بتحقيق أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقوالها وفعالها، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين للأنسنية القائلة بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للأنسنية (10):
[1] الخاصية الأولى: معيار التقويم هو الإنسان
أول ما تمتاز به الأنسنية هي أنها تبدأ فتؤكد أن معيار التقويم هو الإنسان، عبر ما يمليه حسه الإنساني من قوانين، وهو قول يجب أن يُفهم في سياقه الأنسني الحقيقي، لا بالمعنى المبتذل والفاسد الذي يُضاف إليه عادة عند تجار الآلام، فهم يدعون أنه لا أنسنية بدون وضع الإنسان في مقابل الإله، ناسين أو متناسين أن الإنسان ـ في أكثر الآراء شيوعا ـ هو وجه الإله على الأرض وأنه ما انتقل من دور البربرية والوحشية إلى دور التحضر والمدنية إلا عن طريق القوانين. بيد أن هذه القوانين ليست قوانين مفروضة من الخارج، وإلا لكان في ذلك قضاء مبرما على الفردية، إنما هذه القوانين هي ما يُمليه الحس الإنساني العام . ففيها إذن تتمثل الفردية، من ناحية، على أساس أن العقل الإنساني هو الذي يُشرعها أو أن الناس هم الذين شرعوها، ومن ناحية أخرى يتمثل فيها شئ من كبح جماح الفردية، لأن هذه القوانين يجب أن يخضع لها الجميع. وبعبارة أخرى، لا يُعد القول بكون معيار التقويم هو الإنسان تأليها للإنسان، فليس في الأنسنية تأليه لإنسان وإعجاب به وحماس له إلى حد جعله الكائن الأوحد والسيد المطلق. وإنما فيها الانتصار لذلك الكائن النبيل والحيلولة دون سعي تجار الآلام لاسترقاقه وتصييره دابة تعلف في زريبة الآخر، وأقصد بالآخر هنا ـ كما أسلفت ـ كل من يعمد لتعمية الذات، أيا كانت هويتها أو انتمائها، عن الأنسنية.
[2] الخاصية الثانية: الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة
ذكرنا آنفا أن أول ما تمتاز به الأنسنية هي أنها تبدأ فتؤكد أن معيار التقويم هو الإنسان، والسؤال الذي يطرح نفسه.. كيف للإنسان أن يضطلع بتلك المهمة الشاقة والعسيرة ؟! لعمري انه العقل .. ذلك القبس الإلهي ـ طبقا لهيجل (**) ـ الذي يسكن أجساد البشر! إن ثورته الدائمة سبيلهم المتاح لتطوير الحياة وإدراك الحقيقة. أقول الحقيقة ولا أقول الحقيقة المطلقة، فهي محجوبة وهيهات للعقل البشري أن يدركها وان تصور خلاف ذلك، إذ أن الإنسان لا يملك حيالها سوى أن يرخي جفنه ويركن إلى هذا الجانب أو ذاك. لذا، تصر الأنسنية على أن تضع موضع الاعتبار كل ما في العقول الفردية من خصب وثراء وثورة بدلا من محاولة ضغطها جميعا في طراز واحد من "العقل" يقال عنه أنه واحد لا يتغير. والأنسنية كذلك تحسب حسابا للثروة النفسية لكل عقل إنساني، وتُعنى بوفرة اهتماماته وعواطفه ونزعاته ومطامحه. ولا شك أنها بعنايتها هذه تُضحي بكثير من البساطة المضللة التي تبدو في الصيغ المجردة، ولكنها تُقدر وتُوضح جمعا غفيرا مما أغفله الناس فيما مضى ونظروا إليه على أنه وقائع غير مفهومة.. على أية حال، تظل الإشادة بالعقل ورد تطور حياة الإنسان إلى ثورته الدائمة إحدى الخصائص المهمة للأنسنية. وثورة العقل تعني أنه لم يعد قوة محافظة، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى الاحتفاظ الحرفي بالثقافات السائدة، وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير. حتى أن الأنسني مطالب بأن يضمر عداء أبديا لكل صورة من صور الطغيان أو السيطرة على عقل الإنسان، ليتسنى لنا معشر البشر ردع تجار الآلام وحرمانهم من المتاجرة بآلامنا.
[3] الخاصية الثالثة: تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها
مادمنا قد استخلصنا مكانة الإنسان في الأنسنية، بجعلها إياه معيار التقويم وإشادتها بعقله ورد التطور إلى ثورته الدائمة، فقد بقي علينا أن نقوم بحركة مد وعود إلى الخارج، لا لكي يفنى فيه الإنسان من جديد، بل ليؤكد نفسه فيه ويفرضها عليه. والإنسان في هذا الاتجاه إلى الطبيعة يخضع لعامل غزو الذات للموضوع بفرضها قيمها عليه واستخدامه كأداة لتحقيق إمكانياتها، بوصفه عالم أدوات. ومن هنا كانت الخاصية الثالثة للأنسنية هي تثمين الطبيعة والتعاطي معها بتحضر ورقي. غير أنه منوط بنا أن نفهم جيدا الفارق بين هذا الاحترام الأنسني للطبيعة، وبين عبادة الطبيعة عند الشعوب البدائية. فتثمين الأنسني للطبيعة وتعاطيه المتحضر والراقي معها إنما ينبع من اعتقاده الراسخ بكونها منحة سخية، فضلا عن كونها ضرورة ملحة لإدامة الوجود الإنساني، أما الشعوب البدائية فتذهب في تعاطيها مع الطبيعة إلى تأليهها، رهبة وخوفا من جبروتها، وشتان ما بين الأمرين.
[4] الخاصية الرابعة: القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه
رغم وجاهة القول بأنه لا يمكن التقدم بالإنسان حتى يصل إلى درجة الكمال وحتى تختفي الآثام والآلام من وجه الأرض، إلا أنه يُناط بالأنسني الاعتقاد بأنه يمكن للإنسان أن يتقدم كثيرا، وأن ذلك إنما يتم بالإنسان نفسه وقواه الخاصة، لا بقوة خارجية أو عالية على الكون، ففي هذا أكبر تأكيد لجانب العقل والنشاط والتحقيق الخارجي في الذات الإنسانية. وليس ثمة تعارض كما قد يبدو للوهلة الأولى، فإثابة المجتهد على اجتهاده سنة كونية، حق علينا ـ معشر البشر ـ الانصياع لها. غير أن تجار الآلام، وما أكثرهم في كل زمان ومكان، يحلو لهم محاجة القول بقدرة الإنسان على إحراز التقدم استنادا لقواه الخاصة، عبر المزايدة على تلك السنة الكونية، وذلك بزعمهم أن التقدم إنما يتم حتما بقوة خارجية وليس بقوى الإنسان الخاصة، وهو أمر تعوزه الصحة ويتعارض مع المنطق السليم. إذ أن الإنسان ـ كما أسلفنا ـ هو في أكثر الآراء شيوعا وجه الإله على الأرض، منحه خالقه قبسا إلهيا هو العقل، كي يضرب به في مجاهل الحياة، ويحفظ به عليه وجوده. وأراني لا أتجاوز الحقيقة حين أقرر بضمير مطمئن أن حاكمية الإنسان لا تعدو في جوهرها كونها التزاما صارما بما يطلق عليه الحاكمية الإلهية. فنحن معشر البشر محكومون حكما غير مباشر عبر عقولنا التي منحنا إياها، والتي لولاها لهلكنا أو على الأقل ظللنا نضرب في مجاهل الحياة على غير هدى.
[5] الخاصية الخامسة: تأكيد النزعة الحسية الجمالية
إن العقل الذي تشيد الانسنية به وترد التطور إلى ثورته الدائمة ليس ذلك العقل الجاف المجرد التفكير الذي يشبه آلة تنتج تصورات شاحبة غادرتها الحياة، مثل العقل الاسكلائي التائه في بيداء الديالكتيك الأجوف والأقيسة العقيمة (***)، بل هو الوعي الكامل للذات الإنسانية في مواجهتها للموضوعات الخارجية، وهو لهذا يواكب العاطفة ولا يعاديها، ويتكئ على الحس العيني الحي. ولهذا تمتاز تلك النزعة بخاصية خامسة هي النزعة الحسية الجمالية التي تميل إلى الرجوع إلى العاطفة واستلهامها إدراك الوجود في بعض أنحائه. واغلب الظن أن الحديث عن هذه الخاصية لا يتحمل مزيد من التفسير والشرح، وإلا كنا ندفع أبوابا مفتوحة على مصاريعها .
وقد يكون ملائما ونحن بصدد الحديث عن كيفية بناء الذات الأنسنية، إحالة القارئ الكريم للمعالم المذكورة في كتابه (الإنسان هو الحل)، والتي لم يوردها الكاتب بطبيعة الحال على سبيل الحصر، و إنما أوردها على سبيل المثال، بوصفها التجسيد الحي النابض لما يتصوره نهجا أنسنيا واعدا، يُناط بالذات الأنسنية الاسترشاد بأصحابه، وليس مُحاكاتهم، في رحلتها الشاقة والممتعة في درب الأنسنية الصعب، وكذا في سعيها الدؤوب لفتح مجالات جديدة للكفاح الإنساني. فقد رمت تلك المعالم الأنسنية، وأقصد بها إدوارد سعيد وإقبال أحمد وفرانز فانون، لكل ما ترومه النفس الإنسانية المتوثبة، حين ترق، فتكشف لناظرها عما يجول في صدرها من نبل ونقاء. ولسوف يجد القارئ الكريم في ثلاثتهم ما يعينه على تفهم قولنا بأن بناء الذات الأنسنية لا يعني سوى صياغتها بما يسمح لهاـ كما أسلفنا ـ بتحقيق أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقوالها وفعالها، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين للأنسنية القائلة بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للأنسنية التى فرغنا توا من ذكرها.
بيد أنه من الضروري التأكيد على أهمية مسألة استرشاد الذات الأنسنية المنشود بنائها بالمعالم المذكورة، وليس المحاكاة الحرفية لها، فالأنسنية ـ كما أسلفنا ـ لا تسعى لقولبة العقول أو استنساخها على النحو الذي يفعله الدوجماطيقيون، و إنما تُصر اصرارا صارما على أن تضع موضع الاعتبار كل ما في العقول الفردية من خصب وثراء وثورة بدلا من محاولة ضغطها جميعا في طراز واحد من "العقل" يُقال عنه أنه واحد لا يتغير. وكذلك تحسب الأنسنية حسابا للثروة النفسية لكل عقل إنساني، وتعنى بوفرة اهتماماته وعواطفه ونزعاته وطموحاته. ولا شك أنها بعنايتها هذه تضحي بكثير من البساطة المضللة التي تبدو في الصيغ المجردة، ولكنها تُقدر وتوضح جمعا غفيرا مما أغفله الناس فيما مضى ونظروا إليه على أنه وقائع غير مفهومة، وهو ما يشي باحترامها للفرد وثمينها للاختلافات الفردية.
والآن، أما وقد تعرفنا على الاختلاف البين بين ما يعنيه بناء الذات الأنسنية، وبين ما يرمي إليه الدوجماطيقيون من تلقين لأتباعهم وما يرمي إليه الشُكاك من هدم لكل ما تحويه الرؤوس، يبيت لزاما تذكير القارئ الكريم بما يتسم به نهج الأنسنيين من نزوع لإثارة العواصف الفكرية وليس التلقين، وكذا نزوعهم للبناء وليس الهدم، على خلاف نهج الدوجماطيقيين والشكاك. وهو ما ينفي عن الأنسنيين ما قد يتصوره القارئ نزوعا للانخراط في صراع ساخن وأبدي مع غرمائهم. فكلمة "الصراع" المستخدمة في وصف العلاقة بين الأنسنيين والذات المغتربة والآخر، لا تعني ما قد يتبادر للذهن للوهلة الأولى من نزوع أطراف الصراع، لممارسة العنف الصريح والساذج، فالكلمة إذن لا تُستخدم هنا إلا لوصف التعارض الهائل بين الأنسنيين وغرمائهم، وبين الغرماء بعضهم البعض، وأقصد بالغرماء الذات المغتربة والآخر. ودليل قولي هذا إيمان الأنسنيين الراسخ والقوي بأن في انتصار الأنسنية متسع للجميع. فبانتصار الأنسنية تتخلى الذات المغتربة عن اغترابها وتأخذ بالأنسنية كنهج حياة، وتقهر بذلك اغترابها الثقافي، أما الذات الأنسنية المنتصرة فلسوف تكتفي بتجريد الآخر من أخرويته البغيضة، وتمنحه عفوا كريما، فهي لا تعادي الآخر ولا تكرهه، ولكنها تعادي أخرويته وتحرص على تجريده منها، ليصبح بدوره ذاتا أنسنية، تأخذ بالأنسنية وتعمل على تبصير الغير وحثه على السير في دربها الصعب والممتع.
ولعل فيما سبق تأكيدا لنهج الأنسنيين، وسعيهم السلمي للتشييد والبناء، أقصد بناء الذات الأنسنية القادرة على تجسيد الرفقة الإنسانية الصحيحة، وذلك لقطع الطريق على تجار الآلام في زعمهم الباطل باستحالة نشدانها، فتلك الرفقة تسمح لكل عقيدة من العقائد باتخاذ موقفها ومنبرها في هيكل الوجود الجميل، شريطة ألا يدعى أنصار هذه العقيدة أو تلك امتلاك الحقيقة المطلقة ، فأقصى ما يطمح إليه الإنسان إزاء تلك الحقيقة المطلقة هو إعمال عقله في نُشدانها، لا امتلاكها. وكيف لا؟! و البائن أنه قد حيل بينه وبين إدراكها بحجاب كثيف وصلد ليس يمزقه سوى الموت. وعليه فلا يحق له فرض رأيه إزائها على رفاقه في رحلة الحياة، وكل ما يملكه الإنسان إزائها هو الوثوق بما يفضي إليه به قلبه.
والأنسنيون في سعيهم الحثيث والنبيل لتدعيم جبهتهم الواعدة، ليس أمامهم سوى التعاطي الحذر مع غرمائهم، فهم أنسنيو المستقبل. وأراني ما قصدت بهؤلاء الغرماء سوى الذات المغتربة، حتى تبرأ من اغترابها، والآخر، حتى يبرأ من أخرويته. فليس أقسى على الأنسني من رؤية غيره وقد أضحى فريسة سهلة للاغتراب الثقافي أو الأخروية، فكلاهما لا يرحم صاحبه، حتى أنه يأخذه بعيدا عن الرفقة الإنسانية الصحيحة التي تنشدها الأنسنية في كل زمان ومكان. ولسنا الآن بصدد المقارنة بين الاغتراب الثقافي والأخروية، فكلاهما شر وبلاء، و إنما نحن بصدد الحديث عن كيفية تجاوزهما، بوصفهما عقبتين كئودتين، تحولان دون انخراط أصحابهما ـ أقصد الذات المغتربة والآخر ـ في درب الأنسنية.
ولنبدأ بالذات المغتربة، ولننظر كيفية رأب الصدع بينها وبين الذات الأنسنية، ذلك الصدع الذي يُسببه الاغتراب ويعمل الآخر دوما على تعميقه، لا تجسيره. وليس أنسب في هذا الصدد من الأخذ الحذر وغير المباشر بوسيلتين، من شأنهما تمكين الذات المغتربة من الفكاك من شرك الاغتراب واللحاق بالذات الأنسنية. وأقصد بهاتين الوسيلتين: أولا، تعريف الذات المغتربة بخطورة آليات تكريس الاغتراب الثقافي ، وكذا تبصيرها بحتمية التعاطي الحذر معها، علاوة على السعي لأنسنة تلك الآليات. ثانيا، تثوير عقل الذات المغتربة والحيلولة دون إبقاءه قوة محافظة أساسا، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى الاحتفاظ الحرفي بالثقافات السائدة، وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير. والثورية المقصودة هنا لا تعني التجديف في المقدسات ولا الشطح فيما ليس من ورائه نفع، وإنما تعني أن العقل لم يعد قوة محافظة، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى الاحتفاظ الحرفي بالثقافات السائدة، وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير. فتثوير العقل طريق المعرفة والتطور الإنساني، ومن لا يملك عقلا ثائرا لا يمكنه أن ينقد شيئا، ومن لا ينقد شيئا فانه مُغترب وسيظل على اغترابه. وهذا عين ما ينشده سدنة الاغتراب، فهم يريدون المغتربين عبيدا لا أحرارا!
ولئن كنا قد ألمحنا إلى أن نجاح المغتربين في استعادة حقهم الطبيعي في نقد وتطوير ثقافتهم يعني بالضرورة نجاحهم في قهر اغترابهم الثقافي، فها نحن نقرر صراحة أن السبيل الأكثر فعالية لاستعادة الحق المسلوب، إلى جانب تعرية آليات تكريس الاغتراب الثقافي للذات، هو تثوير تعاطى الذات المغتربة مع ثقافتها، ليتسنى لها أن تصبح ذاتا فاعلة، لديها القدرة على تثمين العقل. فبدون انعتاق الملكات العقلية الخلاقة والإبداعية من رق المحرمات الثقافية، يصبح إدراك الذات لثقافتها إدراكا ميتا لا حياة فيه ولا رجاء منه. ولا ينبغي أن تُخيفنا الثورة العقلية المنشودة، لأنها لن تلبث أن تُؤتى ثمارها ـ إن عاجلا أم آجلا ـ كنوزا معرفية متناثرة، يُنفقها المغتربون في اجتثاث أوضاعهم المتردية والعود الأحمد للنهج الأنسني. ولا يُرهبننا تجار الآلام بقولهم أن ثورة كتلك تعني بالحتمية الفوضى واختلاط الحابل بالنابل، فتلك مزاعم يعوزها المنطق السليم، لأن الأنسنيون يريدونها، وهى بالضرورة كذلك، أداة في يد المجتمع المغترب، يقهر بها اغترابه المخزي، ويعزز بها مسيرته في درب الأنسنية الصعب والممتع.
والآن، لنتحول إلى بيان أهمية تعاطي الذات الأنسنية مع الآخر بحذر وبشكل غير مباشر، عبر تجريدها إياه من أخرويته البغيضة والممجوجة، وتمكينه من السير في درب الأنسنية الصعب والممتع. وهي رؤية تستند بصورة أساسية إلى تعرية أخروية الآخر، وإبراز دوافع استئثاره الأناني بالأنسنية، وتكريسه لاغتراب الذات المسكينة، فلمثل تلك الأمور أهمية بالغة في إبراز قبح الأخروية وتنفير الذات منها، ودفع الآخر للإيمان بأنه في موعد نصر الأنسنية متسع للجميع. والآخر هيكل شاغر يشغله كل من يأتي فعال الآخر، و بعبارة أدق، يعد آخرا ـ كما أسلفنا ـ كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمانها من جني ثمار ذلك الفعل الطيب.
أقول إن الآخر غالبا ما يقف وراء إهدار الذات المغتربة للأنسنية، أي وراء عدم أخذ تلك الذات بها، وذلك عبر سعيه المحموم لتكريس الاغتراب الثقافي بكل ويلاته وعذاباته التي يسببها لأصحابه. و بينما تقف الأنانية الثقافية وراء أخروية الآخر المحلي، تقف الثنائية الثقافية وراء أخروية نظيره العالمي. بيد أنه ليس أشق على الكاتب من الحديث عن أنانية الآخر المحلي، في وقت لا يُدرك فيه المجتمع المغترب وجوده أصلا. فهو، حتى وإن أدركه، بطريقة أو أخرى، فإنه يجد صعوبة جمة في الاعتراف بوجوده، اعتقادا منه بأنه جزء لا يتجزأ من نسيجه ومن كينونته الثقافية، واعتقادا منه كذلك بأن الاعتراف به إنما يعد دربا من اللغو والهذيان، علاوة على الاعتقاد في كون مثل ذلك الاعتراف بوجود الآخر المحلي دعوة للانتحار الثقافي. ويظل الكاتب على ثقته بوجود الآخر المحلي على قيد الحياة، ويظل كذلك على إيمانه بإمكانية تعريته.
وللذات المغتربة العذر، كل العذر، في أنها لم تألف الحديث عن الأنانية الثقافية للآخر المحلي، إما لجهلها بوجود هذا الآخر أصلا كما أسلفنا، أو لاعتيادها الجلوس إلى طاولته، غير عابئة بما يُقدم إليها، حتى أنها ألفت أنانيته تلك ولم تعد ترضى عنها بديلا، والأرجح هو اجتماع العذرين معا. و للكاتب أن يُذكر قارئه الكريم بأن الآخر المحلي المقصود هنا لا يدرك فقط أن الإنسان أعلى قيمة في الوجود وأن له حق التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي، ولكنه ـ أقصد الآخر المحلي المشار إليه ـ يحرص أيضا في الوقت نفسه على تعمية أبناء مجتمعه عن إدراك جوهر الأنسنية وهدفها المذكورين في الفصول السابقة، رغبة منه في الانفراد بجني ثمار هذا الإدراك.
ولا مفر من القول بأن تحديد أولئك الذين تنطبق عليهم أوصاف الآخر المحلي، تبعا للمعيار الأنسني، يجب أن يُترك بداهة للقارئ العزيز. ولو أن النخب الحاكمة في المجتمعات المغتربة، في أكثر الآراء رُجحانا، تُشكل حجر الزاوية في هيكله، وأقصد بالنخب الحاكمة تلك الطائفة من الحكام والساسة وغيرهم، الذين ترتبط منافعهم دوما بالأوضاع المتردية، والمواتية لتعمية الذات المغتربة عن إدراك جوهر الأنسنية وهدفها، فنراهم ينزعون في كل زمان ومكان للمحافظة على تلك الأوضاع، بدعوى الحفاظ على مصالح مواطنيهم. وهو ما يُفضي بهم دوما إلى الانفصال الثقافي عن الذات، وان بدا الأمر للمغتربين ثقافيا خلاف ذلك. واراني بحديثي هذا قد أعفيت تجار الآلام من عبء تذكيرهم المستمر والملح لمواطنيهم بقبح جلد الذات، فالثابت أن أولئك الذين تحملهم أنانيتهم الثقافية على تعمية مواطنيهم عن إدراك جوهر الأنسنية وهدفها، ليسوا ذاتا تُجلد ولكنهم آخر لطالما اصطلت تلك الذات ـ ولا تزال تصطلي ـ بناره وشروره!
أما فيما يتعلق بالحديث عن الثنائية الثقافية للآخر العالمي، فثمة تساؤل مهم يُلح بقوة في فرض نفسه، وهو التساؤل المعني بماهية مصطلح الآخر العالمي، نظرا لإمكانية تسكين العديد من المضامين المختلفة تحته. فالآخر العالمي، قد يكون أيا من أصحاب الحضارات الرئيسية التي أوردها صامويل هنتنجتون في مؤلفه الشهير (صدام الحضارات)، وهي: الصينية واليابانية والهندية والغربية والإسلامية والأفريقية (11). بيد أن الكاتب يستخدم المصطلح المذكور للإشارة إلى أصحاب الحضارة المهيمنة أيا كانت تلك الحضارة، طالما عمدوا لتعمية أبناء الحضارات الأخرى عن الأنسنية، وذلك بمساندة الآخر المحلي بطبيعة الحال. ويظل منطقيا قول البعض بانطواء تعميم القول السالف على جميع أبناء الحضارة المهيمنة على قدر وافر من الإجحاف والظلم، استنادا لما يلمسه هؤلاء، عبر تعاطيهم المباشر مع البسطاء المنتمين للآخر العالمي، من رفض بين لتلك الثنائية الثقافية، وإيمان عميق بقبح إهدار آدمية الذات المغتربة. ولهؤلاء نُؤكد أننا نتعاطى في المقال الماثل مع الاتجاه العام المسيطر والمؤثر في الحضارة المهيمنة عالميا، والذي غالبا ما يُسهم أولئك البسطاء في صياغته، بشكل أو بآخر. وان توهموا أو سعوا لإيهامنا بخلاف ذلك! والأولى بهؤلاء البسطاء، حال جديتهم، ردع الآخر العالمي، الذي ينتمون إليه، عن إهدار آدمية أبناء الحضارات الأخرى، بدلا من التباكي عليهم، وإبداء الاستياء إزاء الثنائية الثقافية المقيتة!
أقول إن ثمة ثقافة بعينها تحكم علاقة الآخر العالمي بأبناء حضارته، وهي مغايرة، في أغلب الأحيان، للثقافة الاستعمارية التي تحكم علاقته بأبناء الحضارات الأخرى. حتى أن المراقب المحايد لا يسعه سوى التساؤل عن كيفية تعايش هاتين الثقافتين المتباينتين، إلى حد التناقض، في ذهنية الآخر العالمي!! وهو التساؤل الذي ينبغي أن يُؤرق الباحثين. فعلى خلاف ثقافته الاستعمارية، غالبا ما لا تتعارض الثقافة الحاكمة لعلاقة الآخر العالمي بأبناء حضارته مع القول بأن الإنسان أعلى قيمة في الوجود وأن له حق التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. أو بعبارة أخري، غالبا ما لا يوجد ثمة تعارض جوهري بين الثقافة الحاكمة لعلاقة الآخر العالمي بأبناء حضارته والأنسنية، وذلك لتثمين كليهما للإنسان باعتباره أعلى قيمة في الوجود، علاوة على إيمان كليهما بحق الإنسان في التمحيص النقدي للأشياء، بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل.
أما الاستعمار ـ وأستخدم الكلمة هنا مرادفا للثقافة الاستعمارية ـ، فهو مفهوم غامض إلى حد كبير، يُثير في نفوس الشعوب المستعمِرة والمستعمَرة مشاعر متباينة، فضلاً عن اختلاف تعريفه من فترة زمنية لأخرى ومن مُحلل لآخر، كل حسب منطلقاته الفكرية. غير أن الكاتب ولأغراض الدراسة الماثلة يميل لتعريف الاستعمار بأنه علاقة استغلالية، بين طرفين ليسا بالضرورة دولتين، يوظف بموجبها الطرف الأقوى قدراته العالية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو أيديولوجية، لإقامة الاستغلال والاحتفاظ به وحصد المنافع الخاصة به، مقابل الزعم بحماية الطرف الأضعف من الاعتداء أو تنمية قدراته الاقتصادية أو أية مزاعم أخرى من هذا القبيل. وغالبا ما تتسم الثقافة الاستعمارية للآخر العالمي بخصائص عديدة منها، على سبيل المثال لا الحصر، الاعتقاد في شرعية الاستعمار ، وفوقية المستعمر ودونية المستعمر، فضلا عن القول بمشروعية إهدار آدمية الشعوب المستعمرة .
ووالآن ، أما وقد تحدثنا عن الثنائية الثقافية للآخر العالمي، يبيت لزاما علينا التأكيد على إمكانية أن يكون الآخر العالمي آخرا محليا في الوقت نفسه. بمعنى أنه من الوارد، بل والمألوف، تاريخيا ألا يكتفي القائمون على حضارة مهيمنة بعينها بتعمية أبناء الحضارات الأخرى عن الأنسنية وتكريس اغترابهم الثقافي، فنراهم يعمدون لفعل الشيء نفسه مع أبناء حضارتهم، رغبة من جانبهم في الاستئثار بثمار الأنسنية، وذلك لاعتقادهم بتعرض مصالحهم للخطر حال شيوع الأخذ بالنهج الأنسني. وحينئذ يجتمع الآخران المحلي والعالمي في آخر واحد، ويصبح الجلاد واحدا على الصعيدين المحلي والعالمي، وتتشابه إلى حد كبير سلوكياته تجاه أبناء حضارته، مع سلوكياته تجاه أبناء الحضارات الأخرى، وهو الأمر الذي يُنبئنا التاريخ بحدوثه في حقب زمنية بعينها. وقد يحدث أحيانا أخرى أن يكون الآخر العالمي أكثر شراسة في مواجهة أبناء حضارته عنه في مواجهة أبناء الحضارات الأخرى، وهو ما يعضد القول بقبح الأخروية وشراستها.
ويحلو للكاتب قبل مغادرة هذا المقال التأكيد على قناعته بأن بناء الذات الأنسنية يعد بالأساس بناءا للوعي، فجوهر الأنسنية هو الوعي بالصراع الثقافي، أي إدراك الذات الأنسنية لمساعي الآخر الرامية لتعمية الذات المغتربة، وكذا إدراكها لجهل أو إعراض الذات المغتربة عن الأنسنية ودفاعها عن اغترابها وتعويلها على الآخر في خلاصها. كما يحلو للكاتب أيضا التأكيد على قناعته بأن كلمة "الصراع" المستخدمة في وصف العلاقة بين الأنسنيين والذات المغتربة والآخر، لا تعني ما قد يتبادر للذهن للوهلة الأولى، من نزوع أطراف الصراع، لممارسة العنف الصريح والساذج، فالكلمة لا تستخدم هنا إلا لوصف التعارض الهائل بين الأنسنيين وغرمائهم، وبين الغرماء بعضهم البعض، وأقصد بالغرماء الذات المغتربة والآخر. ففي انتصار الأنسنية متسع للجميع، متسع للذات المغتربة وذلك بتخليها عن اغترابها وأخذها بالأنسنية كنهج حياة، قاهرة بذلك اغترابها الثقافي. وكذا في انتصار الأنسنية متسع للآخر، فلسوف تكتفي الذات الأنسنية حال انتصارها بتجريد الآخر من أخرويته، وتمنحه عفوا كريما.
المراجع
diwanalarab.com
التصانيف
أدب مجتمع