ما يجري من عدوان على غزة يشترك من حيث الأهداف السياسية في عقل القيادة الصهيونية، مع الأهداف السياسية للعدوان على لبنان واجتياح بيروت في العام 1982، ورغم كل الإجرام والموت الذي زرعه جيش الاحتلال في العدوانين، ووجود أهداف أمنية وعسكرية، الا ان هناك هدفا سياسيا متوسط المدى يسعى له كيان الاحتلال، هذا الهدف تحقق في العام 1988 بشكل مبدئي، لكنه بقي يزداد وضوحا حتى انتاج اتفاق اوسلو في العام 1993، وتحديدا ما كان يتعلق بموقف منظمة التحرير من عملية السلام وقرارات الأمم المتحدة والاعتراف بكيان الاحتلال.
والهدف بشكله النظري هو إفقاد القوة المستهدفة تعدد الخيارات، وحصرها في خيار وحيد لا تملك تجاوزه، وبعد ذهابها بعيدا في هذا المسار، تفقد حتى القدرة على تحقيق الانجاز في الخيار الوحيد الذي تعمل فيه. اما في التفاصيل، فنقول ان منظمة التحرير كانت ترفض عملية السلام والاعتراف بإسرائيل، وكان لديها خيار المقاومة فضلا عن خيار التفاوض، اذا ما ارادت ان تذهب فيه، وما جرى في العام 1982 هو افقاد المقاومة ارض العمل المتاخمة لفلسطين، ثم ضرب المقاومة عسكريا، ورغم الصمود إلا ان المحصلة كانت تشريد المقاومة في عدة دول بعيدة في تونس واليمن وغيرها، وفقدت المنظمة خيار المقاومة وتحول المقاومون الى جهاز اداري يحتاج الى رواتب وخدمات، لكنه لا يملك القدرة على العمل، وشيئاً فشيئاً وجدت قيادة المنظمة نفسها بلا اي خيار, ووجد المعسكر المؤمن بالتفاوض داخلها ارضاً خصبة للعمل، ولم يعد امام المنظمة الا دخول طريق الخيار الوحيد فكان إعلان الدولة الفلسطينية في العام 1988 قنبلة دخانية لتمرير إعلان الاعتراف بقرار 242 وتم تقسيم فلسطين الى حل تاريخي هو اراضي عام 1948 وحل واقعي هي أراضي عام 1967، واستمر المسار حتى جاءت اوسلو، واليوم لا تملك السلطة او المنظمة حتى انجاز شيء في الخيار الوحيد الذي بقي وهو التفاوض.
العدوان على غزة يحمل هدفاً استراتيجياً صهيونياً من ذات النوع، فإضافة الى كل الأهداف الاخرى فإن كيان الاحتلال يهدف إلى صياغة واقع سياسي وأمني فلسطيني وإقليمي، وتدخل دولي يفقد حماس خياراتها العسكرية حتى لو كانت نظرية او مقيدة بضعف الإمكانات، فالأمر ليس مرتبطا بالإمكانات بل بالفكر والخيارات، ورغم الاختلاف في بعض الجوانب بين اجتياحي 1982 و2009، الا ان كيان الاحتلال يريد ان يصل الى ذات النتيجة، وهي جعل حماس مضطرة ولو بعد سنين الى التعامل مع عملية السلام، لكن الفارق ان الواقع الحالي سيبدأ من اوسلو وليس من قرارات الشرعية الدولية، ويسعى كيان الاحتلال الى الاستفادة من حالة الانقسام الفلسطيني في جعل التحول في حماس واضحاً، وليس بالقبول بتحولات او مسارات تفاوضية تقوم بها منظمة التحرير.
ما نتحدث عنه هو التفكير الصهيوني، الذي يجد له أسلحة منها هذا العدوان، كما ان هناك أطرافا عديدة قد تتطوع لمساعدة اسرائيل على هذا عن طريق استدراج حماس الى خطوات ولو بطيئة، وأتحدث عن اطراف تربطهم بحماس علاقات قوية، وهناك ما تسعى إسرائيل لإيجاده من عمل دولي وإقليمي لمنع حماس من التزود بالسلاح، وهذا لا يغفل الأذى الذي لحق بالبنية التحتية لجهاز حماس العسكري نتيجة العدوان.
افقاد الآخرين تعدد الخيارات، هو أحد مسارات التفكير الصهيوني في إدارة الصراع، وقد حقق نجاحاً في مواجهة العرب ومنظمة التحرير، ويسعى الآن لجعل العدوان على غزة مفتاحاً لمرحلة يأمل ان يحصد ثمارها مع حماس ولو بعد سنين، هذا ما يريدون لكن الرهان يبقى على الطرف المستهدف في غزة.     

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   سميح المعايطة