لأنه انتهى عصر الأساطير، بات الأمر متعلقاً الحديث بواقعية، دون اللجوء إلى السرحان بالقارئ العربي، لكن الأمر عندما يتعلقُ بالشهداء، فان الأسطورة الحقيقية ستستيقظ ُ في الأذهان، وعندما يكون الحديث عن دلال المغربي فان كل الأساطير تنهار، أمام ذاك الشموخ الذي سطر في ذاكرتنا رمزاً للبطولة، قَلَّ أن تجدها في هذا الزمان .. إنها دلال والأسطورة دلال، دلال التي قادت الرجال وعبرت حقول الألغام نحو قلب الوطن، لتكتب بدمها الطاهر فصول الأسطورة الحقيقية التي يجب أن تبقى خالدة فينا لأنها اليقين والإيمان الساطع الذي لا يجب إلا نحيد عنه، ترى هل لِثلاثين عاما ً أن تمحي من ذاكرتنا دلال ومن معها ممن حملوا الأيدي على الأكف ؟! ..
لن تستطيع السنين والأيام وجبروت الظالمين أن ينسونا تاريخنا الحقيقي، تاريخ ممن جبلوا الطين بدمائهم، فنبت في الأرض سنابل وزيتون ظل شاهداً عليهم يحفظ آثارهم ويروي لمن سيأتون من بعدنا، أن دلال ويحيى سكاف ، وعامر العامرية اللبنانيين ومن معهم كانوا هنا .. مروا من هنا .. فظلت الدروب حاملةً أسمائهم ، قدرنا هو أن تتوحد الدماء العربية دفاعاً عن أطهر بقاع الأرض، وان تختلط دماء الشهداء معاً اللبناني والفلسطيني كي تكون درسا لنا، ومؤشراً واضح، أن عدونا واحداً ومصيرنا واحداً، ورصاص الاحتلال لا يفرق .. في التاسع من آذار قادت الشهيدة الخالدة دلال المغربي مجموعة " دير ياسين " عملية الشهيد " كمال عدوان " بتكليف من أمير الشهداء خليل الوزير " أبو جهاد " فكانت تلميذةً الأمير في جناح " العاصفة " الذراع العسكري لحركة فتح، الحركة التي قدمت أول الرصاص وأول الشهداء، ولكي تخرس كل الأصوات النشاز التي ما تلبث أن تصم الأذن بما تطرح، لذلك كانت دلال والآلاف المؤلفة من شهداء وجرحى الحركة ومعتقليها شاهداً أميناً للتاريخ والأيام، تقول لأولئك هذه هي فتح وهؤلاء هم كواكبها وان أردتم فاسألوا رفات دلال، الذي توجه نحو قلب الوطن، ليزهو الوطن بهذه الكوكبة، التي سرحت بدمائها قناديل الوطن فكانت نجوماً لا تنطفئ رغم الظلام ..
يدور في أروقة السياسة وما تتناقله وسائل الإعلام عن صفقة تبادل أسرى بين حزب الله مرتقبة وإسرائيل، يتم من خلالها مبادلة جنديين اسرائيلين أُسرا في تموز من العام 2006 م مقابل مجموعه من الأسرى ورفات مناضلين استشهدوا خلال عمليات قاموا بها، ومن ضمن الأسماء رفات الشهيدة دلال المغربي التي جعلت من رفاتها أسطورةً تتناقلها الأجيال، بل وحتى على وسائل الإعلام عبر صفحاتها الأولى أو الخبر الرئيس في المسموع والمرئي ، عادت دلال بعد ثلاثين عاماً من الشهادة لتحتل السطر الأول في الأخبار ، كما كانت قبل ثلاثين عاماً العنوان الأهم، والخبر الذي يطرب مسامع الشرفاء ..!!
يبدو أن عملية التبادل قاب قوسين أو أدنى، رغم قناعتي التامة بعدم صدق نوايا الصهاينة، ومع ذلك فإنهم سيقبلون بالصفقة وان راوغوا، فمفاتيح اللعبة الآن ليست بأيديهم، بل في يد من لديه الجنود المختطفين، إن المسيرة الطويلة أثبتت بأن الكيان الصهيوني الغاصب لا يمكن أن يقبل بالإفراج عن أي أسير كان إذ لم يكن الثمن غالياً، فكل النداءات فشلت، وكل قرارات المنظمات الإنسانية فشلت في الإفراج عن أسير واحدٍ حتى لو كان ميتاً، فالتجربة أثبتت أنهم لا يفهمون إلا لغة القوة ومن لا يملكُ القوة لا يمكن أن يكون موجوداً على الخارطة ..
دلال التي وجدت نفسها لاجئةً في عالم الشتات لم تجد إلا البندقية تدافع بها عن وطنها، لذلك تنظمت وتدربت، فقدمت عملاً بطولياً يعجز عنه الرجال، فقادت الرجال وكانت مسؤولةً عنهم حتى اقتحمت عمق الكيان الغاصب، كأسطورة فداء على جبين القدر، فأبلت بلاءً حسناً، شابه في العشرين من عمرها، تعبر البحر بقارب مطاطي، وتمتطي الشاطئ جسرَ الوصول لقلب للوطن، تشحذ بندقيتها بإيمان لا يقهر، وعزيمة فاقت بها المستحيل، تنقلت من مدينة لمدينة، ومن شارع إلى شارع عينها مصوبةً نحو الهدف الذي أُرسلت من اجله، فلسطين والتحرير والسبيل لذلك الشهادة، فاحتجزت الجنود المدججين بالسلاح، وأثبتت للقاسي والداني أن أسطورة الجيش الذي لا يقهر تنهار أمام نعل امرأة فلسطينية، فقتلت منهم الكثير .. الكثير ..!! واستشهدت رافعةً الرأس عالية الجبين، خلدت في ذاكرتنا للأبد، نقشت نقشاً لا يزول بالتقادم ولا يمحى بمرور الأيام ..
هذه دلال المرأة الأسطورة، والشهيدة الغائبة عن عرس استشهادها، وها هم الفلسطينيون يترقبون صفقة التبادل بكل شوق، كي يحتفلوا بدلال عروساً تزف شهيدةً غابت عن عرسها ثلاثين عاماً، ومما تناقلته عناوين الأخبار أن الجنود الإسرائيليون بدأوا ،( أعمال الحفر في "مقبرة الأرقام"، القريبة من كيبوتس "عميعاد، بهدف استخراج جثامين الشهداء العرب، والذين يصل عددهم إلى 190 شهيدا، وذلك تمهيدا لنقلها إلى لبنان ) ومع ذلك فعيون الجميع متجهة نحو تفاصيل الفقه فهم معلقون بفرحة لأسرى الذين سيستنشقون هواء الحرية، وحنين وفرحة يعيدان إليهم ألق الذاكرة حينما يستحضرون البطولة التي سطرتها دلال ومن معها قبل ثلاثين عاماً ..
هذه دلال التي شقت عباب البحر نحو فلسطين وتركت خلفها بحراً من الدماء موجه عال ٍ ، تعود من جديد إلى مسرح الأحداث، كي تذكرنا بان السير في درب التحرير ليس طويلاً ، فالأيام تمر كرمش العين ، بالأمس كانت هنا في دار الدنيا ، ومضت شهيدةً قبل سنوات طويلةً، وهي هي تعود من جديد ٍ نوراً ينتظره الجميع، كأسطورة آمنا بها حد اليقين لن تنسى ..!!
المراجع
ahewar.org
التصانيف
أدب مجتمع