دعونا نقرأ الأمور قراءة صحيحة والألم يعتصر قلوبنا ، بعيدا عن الحزبية والخصومة وذر الرماد في العيون ، ليس بنظرة سوداوية ، ولا من حيث إنكار الإنجازات التي حققها شعبنا ، ولكن من حيث الاستنتاج والتقويم ، من حيث القياس والمقارنة مع البدائل التي يجب توفيرها أمام الوقائع المؤلمة ، والفشل الكبير والتراجع في الأهداف ، وهذا هو الهدف الذي يرمي إليه هذا المقال ، وهو الوقوف والتأمل والمراجعة ، فالحركة السياسية الفلسطينية بكل أطيافها لم تتعرض إلى انتكاسات أو إخفاقات متلاحقة فقط ، بل سقطت سقوطا مدويا ، وفشلت فشلا فاضحا أمام المشروع الصهيوني وممارسات العدو على الأرض ، ذلك الفشل أو السقوط لم يأت تعبيرا عن سقوط وفشل الرموز التي قادت مسيرة النضال الوطني الفلسطيني فحسب ، بل تعبيرا عن سقوط وفشل المبادئ التي انطلقوا من خلالها أيضاً .
أكثر من ستين عاما من النضال والعذاب والحرمان والتمزق ، أكثر من ستين عاما من الأطروحات والأفكار في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية ، وكأنها أنواعا من الترف الفكري و الشطح السياسي الذي سرعان ما تراجع إلى حد الانهيار، أمام تلك التحديات الصعبة والمسئوليات الجسام التي كانت تواجههم ، لتنهار معهم بذلك أنفاسهم القصيرة ، التي ارتبطت في كثير من الأوقات بمصالحهم الفئوية والحزبية ، ولتعبر عن ضيق أفق القادة الذين فرضوا أنفسهم على الشعب الفلسطيني ، وعلى خطأ نهج وتحليل الأفكار والمبادئ التي اعتنقوها وانطلقوا من خلالها ، مهما أوتوا من براعة وذكاء التبرير والتحليل ، وفنون الفذلكة والفلسفة الكلامية الساقطة بسقوطهم ، فالحركات الوطنية لا يمكن أن تنشأ في ظروف سهلة ، ولا يمكن أن تقابلها ظروف مفروشة بالورود ، وعلينا أن نقول الحقيقة واضحة مهما كانت قاسية ، وأن نعترف بها مهما كانت مؤلمة.
فالحركة الوطنية الفلسطينية تُعتبر من أفشل حركات التحرر في العصر الحديث ، فمعظم حركات التحرر في العالم حققت ، أو كادت أن تحقق أهدافها باستثناء الحركة السياسية الفلسطينية ، فشل يتلوه فشل ، وخذلان بعد خذلان ، وهزيمة تتلوها هزيمة أخرى ، وضعف وتراجع باسم الوطنية والواقعية والمصلحة الفلسطينية ، إلى ما لا نهاية الأطروحات الآسنة من تلك الشعارات والتعبيرات واللافتات والمفردات الزائفة الكاذبة ، التي غررت وضللت العدد الكبير من أبناء شعبنا ، والتي أفرزت عملية التسوية وما آلت إليه من أمور.
إنها أفشل ثورة في التاريخ ، بالأدلة والبراهين ، وبالحقائق والأرقام ، فشل منهاج ، وفشل رؤية ، وفشل ممارسة ، وفشل سلوك ، وفشل سياسة كذلك.
فالحركة الوطنية الفلسطينية لم تتمكن من إيجاد المؤسسات السياسية والمجتمعية التي تساعدها في تحقيق أهدافها ، وما يعني ذلك من بناء لوعي وثقافة وصمود الفلسطيني ، فشل فاضح أمام نجاح الحركة الوطنية في الجزائر التي بنت منظومة تنظيمية، سياسية وعسكرية نجحت في التصدي لحكم الاحتلال الفرنسي ، وتمكنت أيضا من إيجاد بنية تحتية لإقامة دولة الجزائر ، وأمام الثورة الفيتنامية وغيرها من ثورات العالم ، ولا يمكن قبول التبرير القائل باختلاف الزمان والمكان وطبيعة العدو ، لأن ديمومة النضال لا تعرف حدودا ولا سدودا ، ولأن العمل الثوري لا بد له من متاعب .
لقد فشل أنابولس كما فشل من قبله مدريد وشرم الشيخ ، والقاهرة وكامب ديفد وأوسلو ، والسبب واضح هو عجز الحركة الوطنية الفلسطينية من تحقيق أهدافها التي عقدت تلك الاتفاقيات واللقاءات من أجلها ، اللهم إلا تنازلات لصالح العدو الله اعلم بنهايتها ، وليس ذلك دفاعا عن تلك الاتفاقيات أو اللقاءات المشئومة ، بل هو بل هو توضيحا لفشل النهج والرؤية والسياسة في التعاطي مع أهداف شعبنا في الحرية والاستقلال ، في نفس الوقت الذي لم يعط العدو للفلسطينيين فيه شيئا يستحق الذكر ، والعدو يضغط الآن باتجاه أن نختار واحد من اثنين ، إما وقف إطلاق الصواريخ وإما العيش في ظلام دامس وشلل حياتنا الاقتصادية ، بمعنى الاستسلام للعدو ، والرضوخ لشروط الرباعية الدولية ، ولا أدل على ذلك من الاتفاقية الاقتصادية التي وقعها قريع في باريس (اتفاقية باريس الاقتصادية ) و التي ربطت الاقتصاد الفلسطيني في غزة والضفة بالاحتلال عام 1994 ربطا كاملا. ومفاوضات ولقاءات لا فائدة لشعبنا من ورائها ولغة توسل وحوار هزيل أمام غطرسة القوة والاستغوال ، أمام خيارات المقاومة تثبت مصداقيتها في كل يوم .
خسارة في الذهاب وفي الإياب ***** هذا هو شأنك يا عُرابي
لقد بات الوطن أوطانا وأشلاءً ، والمدن كانتونات ، وتواصل ترحيل الفلسطيني من مكان إلى أخر حتى البرازيل وتشيلي وكندا والسويد ، والألوف من شبابنا تركوا الوطن وذهبوا ليبحثوا عن مكان لهم في غرب أوروبا وشرقها .
لقد فشلت الحركة الوطنية الفلسطينية في تحقيق أهدافها الإستراتيجية ، ومشاريعها السياسية ، ومهامها التحررية ، وعاشت حالة من الترهل على جميع الأصعدة والميادين والمؤسسات ، وهي لازالت تتخبط وتنزلق من مربع إلى مربع أخطر منه ، في مشاريعها التصفوية الاستسلامية والتي تتغلف بغلاف سلفان الوطنية ، وترتدي رداء الثورية ، ولم تر عوراتها البائنة والتي يتم فضحها وهتكها من خلال إفلاسها السياسي اليومي ، ولغة خطابها الهزيل ، وبرامجها المترنحة ، وفشلها في التعامل مع العدو ، أمام غطرسة القوة وعوامل الطمس والتذويب ،
ولم تتمكن الحركة الوطنية الفلسطينية من ترتيب الوضع الداخلي الفلسطيني على مختلف الأصعدة ، وبلورة حل متفق عليه ، مهما كان شكله الذي يحقق التوافق الداخلي بين الأشقاء الفلسطينيين بمرجعية وطنية ثابتة ، و يخدم المصلحة الوطنية العليا لشعبنا .
قال أبو عمار رحمه الله عندما سؤل عن جدوى عملية التسوية : أذهب إلى الوطن وأقاتل العدو من فوق تراب الوطن . انتهى . حتى سمعنا عن الطرح الإسرائيلي على المستويات الرسمية والشعبية والذي يتعزز باتجاه دولة يهودية أحادية القومية، مما يعني ترحيل فلسطيني 1948 وبات الشعب الفلسطيني يتوسل كالأيتام على موائد اللئام .
شمعون بيرز يقول : جئنا بهم تحت أعيننا من أجل أن نفرض عليهم ما نريد أو نرسل لهم طائرة واحدة تعلمهم ما نريد .
واليوم يتم اقتلاع الفلسطينيين من وطنهم بشكل منهجي ومدروس ، وفقا لرؤية جابوتنسكي وتلامذته من بن غوريون وبيغن وشارون وحتى أولمرت وباراك .
لقد دفع شعبنا ثمنا باهظا من وراء الخدمات والدعم المقدم من الرباعية الدولية وأمريكا والنظام العربي الرسمي . ولم يعد الفلسطينيون على جدول أعمال أي جهة دولية أو إقليمية إلا بما يخدم مصالح هذه الجهات .
كما أنه من الواضح لكل ذي عين مبصرة أن المجتمع الدولي والنظام الرسمي العربي ، لم يعد حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أجندته، وإنما على أجندته الرئيسية تعزيز العلاقة مع دولة الاحتلال هو الهدف الأسمى .
، ويكفي أنصار المشروع السياسي خطاب بوش والرئيس الفرنسي في الكنيست الإسرائيلي في ذكرى النكبة، وزيارة المستشارة الألمانية من قبل وغيرهم من القادة الأوربيين الذين يتقاطرون تأييدا لإسرائيل .
، ومشاريع الاتحاد الأوروبي الأورو متوسطية ، والتي تهدف لدمج دولة الاحتلال في المجتمعات العربية ، دون تقديم أية استحقاقات سياسية تجاه حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي .
ومن اللاءات الثلاثة المعروفة – لا اعتراف، لا مفاوضات ولا صلح مع إسرائيل إلى السلام كخيار استراتيجي ، من العنف الثوري المسلح طريق التحرير إلى تحقير المقاومة وتسليم المناضلين وزجهم بالسجون ، ومن اعتبار قادة الأعداء مجرمون قتلة إلى اعتبارهم أصدقاء . ومن غزة ومصر والكويت ، مرورا بالساحة الأردنية فاللبنانية فالتونسية ، وتشتت قوات منظمة التحرير الفلسطينية بعد هزيمة المقاومة عام 1982بسبب القبول بمقترحات فيليب حبيب ، إلى سلسلة من الاجتماعات واللقاءات بين ضعيف عاجز مغلوب على أمره يستقبل عدوه بالأحضان والقبلات ، وبين قوي يتكلم بلغة غطرسة القوة .
وانهيار جبهة الصمود والتصدي وفشلها في فرمتة مشاريع الاستسلام ، بل في كثير من الأحيان كانت تغض الطرف منتظرة تقاسم الكعكة ، وتراجع أفكار اليسار والعلمانية ، واختزال وتفتت الأهداف والمواقف ، حتى أن بعض فصائل اليسار فلسطيني رفض الاشتراك في مؤتمر دمشق من أجل المليون ونصف المليون دولار . ليرهن موقفه وسياسته مقابل حفنة من الدولارات ، فأية مبدئية ومصداقية ووطنية تلك ؟ ، ولم يكد تنظيم واحد من تلك التنظيمات المنضوية تحت لواء الحركة الوطنية الفلسطينية أن يخلو من الانشقاقات.
إن اليسار الوطني والقوى الديمقراطية في الحالة الفلسطينية يتحملون جزءا كبيرا من فشل الحركة الوطنية الفلسطينية ، واليوم وبعد أكثر من ستين عاما يطل علينا اليسار الفلسطيني مجددا من غرفة إنعاشه ؛ من أجل بناء جبهة وطنية متحدة ، من القوى اليسارية والتقدمية والليبرالية الفلسطينية, تشكل وفق زعمهم رافعة في الحالة الفلسطينية, وعامل استقطاب للعديد من الفعاليات والشخصيات والفئات الاجتماعية , التي لم تعد ترى في برنامج فتح وحماس ما يلبي مصالحها , وما زالت ترى أن مصلحتها في إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني الفلسطيني ، ومنهم من يطالب اليوم بدولة علمانية تقدمية ثنائية القومية !! ، فهل ستزيد قوى اليسار الفلسطيني المندرجة تحت لواء الحركة الوطنية الفلسطينية صفحة جديدة من صفحات فشلها !!! ؟ لننتظر وإن غدا لناظرة لقريب ، ولا أقول ذلك لا سمح الله تشفيا من أحد ، بل وكما قلت في مقدمة مقالي هو تحمل المسئولية ، والوقوف مع الذات والمراجعة ، والمحاسبة والتقييم ، وإن كنت أتكلم بلهجة المحترق .
هكذا فالحركة الصهيونية تنجح في كل اتجاه والحركة الوطنية الفلسطينية تفشل في غالبية اتجاهاتها .
نجحت الحركة الوطنية الفلسطينية بتحالفاتها مع النظام العربي الرسمي ، في تقزيم القضية الفلسطينية ، من قضية العرب والمسلمين الأولى ، إلى قضية عربية إسرائيلية، ثم إلى قضية فلسطينية إسرائيلية ، ومن صراع وجود إلى صراع حدود ، ومن تقرير المصير بدلا من العودة والتحرير، وتلاعبت في استخدام مفردات التعبئة والقنال ، فالنزاع العربي الإسرائيلي بدل الصراع ، ومشكلة الشرق الأوسط بدل مشكلة فلسطين ، وكلمة الثوابت وكأن هناك لا ثوابت للفلسطينيين ، و حقوق شرعية وكأن هناك حقوق للفلسطينيين هي غير شرعية، ومن حق العودة الإنساني بدلا من حقنا التاريخي في تحرير فلسطين ، وتناولوا حق العودة في تفسيرات تخدم الكيان ، فحق العودة الفردي أم الجماعي أم الإنساني أم القانوني؟
لقد مهدت الحركة الوطنية الفلسطينية قبل ذلك للعملية السياسية المزعومة من خلال عملية برمجة مدروسة ، تمثلت في إقالة المقاتلين الضباط ، وتسريح القادة ، وتقليص الرواتب ، ومن ثم شطبها وإغلاق مواقع تدريب كثيرة ، وتهيئة مؤسسات منظمة التحرير للانخراط بعملية التسوية ثم البرنامج المرحلي 1974 والنقاط العشر.
تدحرج خطير من مربع سيء إلى مربع أسوأ منه ثم طرح الدولة الديمقراطية ومرورا بغزة وأريحا أولا . إلى المطالبة بعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل انتفاضة الأقصى وانتهاءً بالمطالبة بإزالة حاجز من هنا أو هناك .
الأمر الذي مثل تخليا واضحا لمنظمة التحرير الفلسطينية عن إستراتيجيتها في التحرير الكامل والعودة ؛ لإطلاق رصاصة الموت على الوطنية ، هذا الأمر أدى بحركات تحرر أخرى للبروز على الساحة ، والتمسك بالأهداف التي انطلقت من اجلها منظمة التحرير الفلسطينية .
ولم يتعلم قادة الحركة الوطنية الفلسطينية العبر والدروس من الشرك الذي تم نصبه وإحكامه لهم جيدا ، فتوهموا وأوهموا غيرهم بأنهم أمام إنجاز وطني كبير ، ومشروع سياسي وليد لا يُسمح بوأده !!! ، وما إلى ذلك من مصطلحات ، فتبددت أوهامهم ، ولم يعد هناك من وليد ولا مولود ، ولا زالوا يتمسكون بعملية سلام لا معنى لها أمام الوقائع التي تؤكد على صحة نهج المقاومة في جميع أشكالها ، وأن العدو لا يفهم غير لغة النار ، وأن الضربات المتلاحقة للعدو هي الكفيلة بإجبار مشروعه على الانكفاء ، فمشروعه القائم على العنصرية وإلغاء الآخر ، ونظريات الإبادة والترانسفير، وتهجير وطرد الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم وممتلكاتهم ، لا يمكن مقابلته بمشروع تسوية هزيل فاشل في كل شيء ، ناجح في الاستجداء والمعانقة والتقبيل .
فبدلا من أن تتبنى الحركة الوطنية الفلسطينية مشروع الوحدة والمقاومة ضرب قادتها مقومات الصمود ، وجعلوا الوطن والقضية بقرة حلوبا وشركة استثمار وأرباح ، وعاشوا حالة من الاسترخاء وصلت بهم إلى مزيد من الفشل ، ونشروا الفساد والإفساد ، وتعاونوا مع العدو ومع النظام العربي الرسمي بأستار من الواقعية بحُجة غياب البديل ، كل ذلك كان باسم الوطنية والمشروع السياسي المزعوم ، فقمعوا المناضلين وانحرفت بوصلة النضال تمشيا مع رؤيتهم السياسية ، فهل تتعلم الحركة الوطنية الفلسطينية مجددا من الدروس ؟ وهل تتمكن من استعادة زمام المبادرة من جديد ، فتؤمن بأن الكفاح بكل أشكاله خاصة المسلح منها هو الطريق الأقصر لتحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية في النصر والتحرير ؟ (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ))
(( يا أيها الذين امنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وانه إليه تحشرون )) . (الأنفال آية 24 )
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين (العنكبوت آية:69).
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع