حين اقيم أحد المؤتمرات الفلسفية ، قبل سنوات عدة ، في العاصمة الفرنسية ، باريس ، كانت المفاجأة أن معظم دول العالم لها من يمثلها ، في هذا المؤتمر ، باستثناء الدول العربية ، التي شاركت فيه بدارسي الفلسفة ، ولا أقول منتجيها. وقد كان هذا من المؤشرات الخطيرة التي تؤكد غياب الباحث والمفكر العربي ، وغياب شخصية الفيلسوف من خارطة الفكر العربي.
إن مثل هذا الافتقار لقامة فلسفية عربية يحيلنا إلى سؤال منطقي مفاده: إذا كانت الحضارة العربية الإسلامية استطاعت ، خلال سنوات ازدهارها ، أن تضخ للعالم العديد من الرموز الفكرية والفلسفية ، ليتحولوا إلى مرجعيات في أساسيات الفقه الفلسفي العالمي ، فما الذي حدث حتى وقعنا ، في هذا الغياب الفلسفي ، عن خريطة الفلسفة العالمية؟.
وفي البحث عن الأسباب نجد أن فكرة القمع الفكري ، التي بدأت ـ أول ما بدأت ـ مع المفكر العربي الراحل طه حسين ، الذي حاول أن يشكك ، في كتابه ، في نسب الشعر الجاهليّ ، بعدما تفحص مرجعياته على الطريقة الديكارتية ، وكان ثمن ذلك تسريحه من الجامعة ، وإيقافه عن العمل فيها ، حتى يقدم اعتذاره عما اقترفه من خطيئة اقترابه من الثوابت التي تصل حد التقديس.
وكانت هذه هي الضربة الأولى والمبكرة لمحاولة بحثية متواضعة. لكن هذه الضربة سرعان ما ألقت بظلها القامع على كل الجامغات العربية ، بحيث انقلبت هذه الجامعات من دورها التنويري والفكري الذي يمكن أن يتخلق منه الباحثون والفلاسفة ، إلى دور الحارس الرقابي المانع أي مغامرة فكرية أو فلسفية.
إن مثل هذا اللجام الفكري المبكر ، الذي عاصر بزوغ النهضة العلمية والفكرية العالمية ، في مطلع القرن الفائت ، استطاع أن يجعل الجامعات العربية المختصة في الدراسات الفلسفية والفكرية ، تنأى عن الذهاب بموادها البحثية نحو المخاطرة ، أو المغامرة الفكرية الكاشفة والخلاقة ، مثلما جعلها ، أيضاً ، تجتر المنتج الفلسفي الذي أحدثته ثقافة القرن الرابع الهجري ، وتنسخ ما تنتجه الحضارة الغربية من فلسفة وبحوث فكرية ، وتعيد تسويقها.
وفي الجانب المسكوت عنه ، في التفكير الجمعي العربي ، أنّ كلمة فلسفة مرتبطة بكل ما هو جدي وجاف ومعقد ، إلى الدرجة التي جعلت الدراما العربية من بطل المسلسل ، الذي يحاول أن يتحدث بفكرة تقترب من الفصحى ، يتهم من قبل محاوره بأنه بدأ يتفلسف ـ على اعتبار أن الفلسفة من الآثام التي لا يجوز ارتكابها في التحاور،.
وحتى يكتمل المشهد المفارق للفلسفة ، فقد قامت أكثر من دولة عربية بالغاء مادة الفلسفة من منهاجها ، وإعدام كتبها ، واكتفت بإبقائها مادة مدرجة من ضمن التخصص الجامعي.
إلى هذه الدرجة بلغ يُتمنا الفلسفي ، وإلى هذه الدرجة وصل فقرنا المعرفي ، وقد فعلنا هذا ونحن ندرك أن أساس كل الحضارت البشرية وتألقها هو الفلسفة.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خليل قنديل جريدة الدستور