استطاعت المجتمعات العربية اعفاء نفسها من التطوير القيمي المسؤول حين اعتمدت ايديولوجية الواجبية. ومحاولة تعميم نهج الواجبية في كل المسلكيات الاجتماعية ، ومحاولة كتابتها وتحبيرها ووضعها في كل الاماكن التي من الممكن ان ترتطم بها نظرات الاعين.

وانا لن انسى ما حييت تلك اليافطات السوداء التي كانت تحتشد على جدران مدرستي الابتدائة بذاك الخط الاسود المكتوب على خلفية سوداء. وكانت عبارات الواجبية المكتوبة على تلك الآرمات الصغيرة تقول لنا : "لاننسى فلسطين" ، أو "حافظ على نظافة مدرستك" ، وقد كانت هذه العبارات ومع طول المدة تتحول مشهدياً الى كونها جزءا من الجدار المعلقة عليه.

وحينما كبرنا وجدنا هذه الواجبية تتخذ اشكالاً اكثر تعقيداً حيث وجدناها تدخل في توصيات الاب وتوصيات الام ، وتوصيات كبار العائلة ، وتوصيات عقلاء الحي.

وحينما توغلنا في دهاليز العمر وجدنا مساحة نهج الواجبية يتسع ليشمل نشرات الاخبار ، والمعلقين ، والمنتديات ، والخطابة السياسية ، والاحزاب والمظاهرات والشعارات واليافطات التي كنّا نحملها مطالبين بواجبية تحرير الاوطان ، وواجبية تحقيق الوحدة العربية من المحيط الى الخليج ، وواجبية تحقيق النصر.

وفي زمننا الحالي ومع الاندحارات المتتالية لتلك الواجبية ، بدأ كل شيء يتقزم ويفقد معناه ، وصار الحدث السياسي في عناد مستمر مع هذه الواجبية والانقلاب عليها وتسخيفها. وباتت الواجبية تتمظهر في يافطات قزمة تحتل المكاتب الحكومية ، ومكاتب الشركات وذلك ضمن اقوال مأثورة ، أو امثال وحكم ، توضع على طاولة الموظف الحكومي ، أو على الجدار وفي ردهات المبنى الحكومي.

وصارت المجتمعات تدرك ان مثل هذه الكتابات الواجبية هي في الاصل حالة نزاع اخير لتوصيات واجبية اكلت رأس الناس لمدة تزيد على نصف قرن دون ان تتحقق.

ان الاصل في تحقيق المراد من نهج الواجبية ، هو العمل على تحقيق هذه الواجبية عبر القوانين والقيم التي تنتجها الشعوب ، قبيل تسطيرها وتحبيرها في يافطات وفي النطق السياسي العام.

وأن سر نجاح المجتمعات الغربية هو قدرتها على تحويل نهج الواجبية الى مسلك يومي وعفوي لمجتمعاتها.

أما نحن فقد آثرنا ان نفرخ هذه الواجبية ونعمل على تصنيمها ، دون اي مسلك حقيقي لتحقيقها. وربما هنا تكمن كارثتنا التاريخية المعاصرة.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خليل قنديل   جريدة الدستور