في مطلع الثمانينيات أجرت محطة تلفزيونية لقاء مع الشاعر محمد الماغوط ، الذي كان يرأس آنذاك القسم الثقافي في جريدة الخليج الامارتية ، وكان القراء العرب ينتظرون زاويته "قطرة مطر" الاسبوعية بفارغ الصبر. وكانت المفاجأة ان شاعراً مبدعاً مثل الماغوط كان خلال اللقاء متلعثماً ومرتبكاً في حواره مع مذيع اللقاء.

وقد لفت انتباهي هذا الارتباك المعلن لكاتب بهذا الحجم امام كاميرا ، لكن وبخبرتي في مجال الثقافة ودروبها الوعرة ، اكتشفت لاحقاً ، ان المعنيين بالشأن الثقافي ينقسمون الى قسمين ، الاول هو عينة الماغوط ، وهي عينة ترى ان اشتباكاتها الثقافية العميقة تحدث في داخلها كي تنتج العمل الابداعي النادر والداهش ، ولهذا فهي تؤثر على نفسها تحاشي الاطلالة من برناج تلفزيوني ، أو من محطة اذاعية ، او من على منصة تواجه الجمهور تماماً. لا لشيء سوى ان النطق عند هؤلاء يقترب من الرسالة المشفرّة التي لا تقع في مساحة النطق والشفاهية المجلجلة ، بل تأخذ طريقها الى مكانها الطبيعي حيث الحبر الذي يقرأ بصمت مجلجل.

أما العينة الثانية التي بدأت تتكاثر هذه الايام كالفطر في مشهدنا الثقافي ، فهم هؤلاء الذين يمكن تسميتهم بمجانين المنصات. وهؤلاء هم الاحفاد النجباء للشفاهية العربية التي امتدت تاريخياً من سوق عكاظ وعبرت كل المفاصل التاريخية العربية الموجعة ، وخسائرها المؤبدة ، ومازالت في كل مناسبة سياسية كانت ام اجتماعية تتسنم الحضور بالصعود الى المنصة واطلاق تلك اللغة المقعرة التي توحي بجدية الوعي لكنها في النهاية تفشل في أخذنا اليه.

مجانين المنصات صرنا نراهم في المناسبات الوطنية والاحتشادات الجماهيرية والامسيات الثقافية من شعر وقصة وندوات ، صرنا نرى الحاحهم المريض في الحضور في وسط الصورة التي تتناقلها الصحف ، وصرنا نتقبل تلك الديباجة اللغوية العثمانية التي يقدمون فيها انفسهم ، وخفة الدم العرجاء التي يقدمون بها انفسهم.

والغريب ان "حكة" الحضور فوق المنصة قد بدأ ينتقل من هؤلاء ، الى الجمهور ذاته الذي ما أن يعلن عن بدء النقاش حتى يهرولون لتسجيل اسمائهم ، وللتباري في التعقيبات والمداخلات الى درجة ان بعضهم يقدم في مداخلته محاضرة كاملة.

مجانين المنصات هم ظاهرة صوتية عربية صارت بحاجة الى لجم وتقزيم. ومجانين المنصات يبدو انهم لا يعرفون اننا نعيش في زمن الصورة التي هي أبلغ من كل هذه الضجة المريضة التي يفتعلونها في كل مناسبة.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خليل قنديل   جريدة الدستور