" هل يوجد الإنسان إلا في ذاكرته " فماذا تحمل ذاكرتي حول هذا الشيخ الذي علّمنا الشعر .. وكان قدوة لنا في خلقه وتواضعه فهو العالم من غير ادعاء ، والمتواضع دون كبرياء ، والتقى دون رياء ، كان وجوده في الأمسية ، في جلساتنا يضفى جوا من الألفة والمحبة ، لقد جاء ليكون أبا للجميع ، وليكون حَكَما يرتضيه المجتمع ، إنه دور الشاعر القديم الذي يؤلف بين أبناء قبيلته ، لكن قبيلة الشاعر محمد امين الشيخ كانت الوطن ، كان يحس بأبناء العروبة كأبنائه ، شغلته قضايا وطنه أكثر ما كانت تشغله قضايا بيته وقبيلته ، لقد غدا صوت أمته ، ولكنه في الوقت ذاته – الشاعر المرهف ، العاشق ، الذي يصف لواعج النفس وآلام الهوى في تعفف بيّن ، وجمال تورية ، وبلاغة خطاب .
في كل أمسية قصيدة ، وحسنا ما فعله أبناؤه الصالحون عندما جمعوا هذا التراث الشعري في ديوان أحرى بالصعيد أن يكون ديوانه المعبر عنه ، عن آماله وآلامه ؛ وفي مناسبات وطنه وبيئته كان الشاعر محمد أمين الشيخ يتخذ من المناسبات وسيلة للتحدث عن الوطن ،كان الوطن عشقه الأزلي ، وهواه المصون .
عندما ألّمْت بي حادثة سير جاء إلى قريتي " العويضات " محييا بقصيدته التى غدت درة فخر للقرية :
قلت للعويضات
قـلت للعويضات : مساء الخير
أنـت مـاغـبـتِ عن قوص
مـا تواري الحدودُ صلة الأهل
فـأنـا أدرك الـحـياة وجدانا
قلت للعويضات : يعجز الشعر
ربـما كنتِ فوق طاقات روحي
هـاهـنا تنبت المروج اقتداراً
وهـنـا تُـزهـر الربوع نقاءً
وهنا " أبو الفضل " مبدع الشعر
حـسـبـنـا مـنه رقةٌ وسمو
أحـمـد الله أن أراك سـلـيماً
حـينما كنت في الفراش بعيداً
فامض في الكون ... مثلما كنت
وســلام مـن الله يـرعـاك
يـا قـريـة الـصـفاء النقية
وإن كـنـت في الرؤى قفطية
ولا تـقـتـل الـمعاني السنية
تـحـوطـه مـشاعرٌ وحدوية
أن يـوافـيـك بـالثنا والتحية
فـاقـبـلـيـها قوافيا وردية
ورجـالا ذوي نـفـوس أبـية
وارتـقـاءً وعـزةً وحـمـية
والـقـول وفـارس الـعربية
حـسـبـنـا منه دفقة شاعرية
بـاسم الثغر ناصعاً في الطوية
سـكـب الهم في القلوب أسية
ذوقـا ... ورفـعـة فـوقـيه
أنّـى رحـلت يا شاعر الحرية
وعندما بلغني نبأ وفاته جاءت هذه القصيدة .
أسـتـغـفرُ اللهَ ذنباً لستُ أحصيهِ
قـد أقـبـلَ الليل، والأحزان قاتلةٌ
تـفـطّـرت مهجٌ من فَقْدِ شاعرها
وقـد تـمـنـيتُ أني كنتُ في حُلُمٍ
مـا جـئـت راثيه بل جئت أبكيه
مـا كُـنتُ أحسبني آتي إلى قوص
والـكـل فـي مأتم والناسُ واجمة
وراحَ كـلٌّ يـعـزّي فـيه صاحبَه
كـلٌّ يُـكـفـكفُ دمعاً في محاجرهِ
قـد صـار للكلّ رمزا في أصالته
وكـلـنـا بـقـضـاءِ اللهِ مـلتزمٌ
فالموت كالجسمفي طولٍ وفي قِصَرٍ
والـنخلُ جاءَ بثوبِ الحزنِ متشحا
قوص بكت شيخها ، والشعر منتحب
يـبـكـي عليهِ بعينٍ فاضَ مَدمَعُها
قـدكـانَ؛آهٍ ولـيْت الْ"كان"لم تكنِ
قـد كـانَ كالبحر؛تلك الكافُ زائدةٌ
مـا جـئـتُ راثيَه بل جئتُ أبكيهِ
مـا كـنـتُ أحسبني آتي إلى زمنٍ
أبـكـي الـمبادئَ أم أرثي تواضعَه
قـد كـنـتَ فينا حكيمًا ناصحا وأبا
كـلُّ الـمـكارمِ في قولٍ وفي عملٍ
ومـا أتـيـتُ بشعري كي أُواسيَكم
وقـد أتـيـتُ بـشعرٍ لفظُه وجعٌ
وربـمـا أَنَّ شـعـرٌ مـن توجّعهِ
قـد كـنتُ أرقبُ كيف الموتُ غيّبَهُ
فـي كـلِّ أرضٍ بكاه الناسُ قاطبةً
هـا قـد رحلتَ قريبا في جوارحنا
يـا أيـهـا الـموت رفقا إننا بشر
كـأنـما الأرضُ ودّتْ منه عنبرَها
لـوانَّ زائـرَه قـد جـاءَ مـن بلدٍ
فـقـد تـحـوّل روضًا عند زائره
يـا ربّ جـاءك عـبـدٌ؛ فَقْدُهُ جللٌ
أنْـزلْـه مـولايَ دارَ الخُلد تَكَْرِمَةً
مـحـمـدٌ ، يا أمين الشيخ معذرة
قـد جئتَ في زمن ما أنت صاحبه
يـا أمـةَ الـشعرهذي دمعتي كُتبتْ
يـا غـافـرَ الذنبِ مَنْ للعبدِ يأتيهِ
فـلـذتُ بالله فـي صـمتٍ أناجيهِ
والـشّـعـر من حزنهِ أقْوتْ قوافيه
ولـم يـجـئ ذلـك الناعي فيعنيه
كـل الـصـعـيد فداء ، لو يفدّيه
والـشـاعـرُ الشيخ قد خلا محبيه
وحـزنُ شعبي-دهورًا - لا يوافيه
كـلٌّ يـلـوذُ بـصـبـرٍ لا يواتيهِ
كـأنـمـا الـدمـعُ نبتٌ في مآقيهِ
وكـلّـنـا صار حولَ الشيخ أَهْلِيهِ
لـكـنـما الصبرُ هَوْلُ الفقدِ يُرْديهِ
والـمـوتُ لفظٌ وكلُّ الناسِ ترويه
فـالـشـيـخُ زارعُهُ، والكلّ يجنيهِ
يـبـكـي عليه ، وقد فاضت مآقيه
والـشـعـرُ يبكي حبيبًا ،ساكنٌ فيهِ
مـا تـلكُمُ الْ كانَ إلا محض تمويهِ
"فـهـذه الـكاف ليستْ كافَ تشبيهِ
كـلّ الـقـلـوبِ فـداءٌ لـوْ تُفدّيهِ
والـمـاجـدُ الشيخُ قد خلَّى مُحبّيهِ
إنْ قـصّـر الشعرُ فالأخلاقُ تكفيهِ
وحـكمةُ الشعرِ قد جاءتْ على فِيهِِ
إنّ الإنـاء نـضـوحٌ بـالذي فِيهِ
أنـا حـزيـنٌ ، كـفردٍ من مريديه
فـالـفـقـدُ قاتلُه ، والحزنُ يمليهِ
وربـمـا نـاحَ لـفـظٌ من تلظّيهِ
لـكـنْ مـناقبُه في الأرضِ تحييهِ
ولـوْ يـغـيـبُ فـإن الحبَّ يُدْنيهِ
كـأنَّـك الـلـفـظُ مسكونٌ معانيهِ
مـن الـتراب ، فكيف القبر يطويهِ
فـراحت الأرضُ بالأحضان تؤويهِ
لا يـسْـألنَّ ، فطيبُ التُّربِ يهديهِ
نِـعـم الـجوار ونِعم الشيخ ثاويهِ
لـكـنّ قُـرْبَـكَ يـا مولاي يكفيهِ
فـجودُك الجودُ عدلٌ سوف يرضيهِ
إن جـاء شعري دما فالحزن يدميه
هـذا الـزمان زمان الزيف والتيه
وإنّ لـلـشـعـرِ ربًّا سوفَ يحميهِ
شكري العميق للأستاذ الدكتور هاشم أبو الحسن على الذي جاء ليعيد لنا زمن الوفاء في زمن عزّ فيه الوفاء ويعيد لشيخ شعراء الصعيد حقه ويعيد لقوص مجدها الأدبي العتيق .
وتحياتي للصديق الأستاذ أسامة محمد أمين الشيخ الذي يثبت وإخوته وأخواته إن عطاء الشيخ ونفحاته لا تنقطع ، فما مات من أنجب أمثال هؤلاء .
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع