مثل كل مرة تبدأ بتراخي الأطراف ، ومن ثم تبدأ حالة ملحة لإجراء التثاؤب الذي لا يكتمل. إنها القشعريرة اذن التي تحدث بسبب التهاب اللوزتين ، أو أي التهاب في أي منطقة نائية من الجسد. تمر ساعة أو ساعتان ومن ثم يبدأ الجسد بالارتجاف. وتحدث حالة "البردية" كما تسمى شعبياً.
وأنا حينما أصاب بمثل هذه الحالة التي أصابتني قبل يومين ، أتحول إلى طفل صغير ، ويبدأ اتصالي بكل ما حولي بالانفصام وتبدأ الحياة تتشكل في ذهني بشكل صبياني ، فارتجافة البدن المتواصلة لا تحدث بسبب برودة في سطح الجسم كما يهيأ لأي مريض بل تكون البرودة في العظم تماماً. ولهذا لا تكتفي بالدفء حتى لو وضعت فراش البيت بكامله فوق جسدك.
والغريب أن كل من حولك من العائلة ينظرون الى ارتجافك الجسدي هذا على اعتبار انه أحد أشكال الدلع ، التي لا تليق بعمرك الخمسيني.
هذه الحالة أصابتني منذ ظهيرة الخميس وحتى صباح يوم السبت الفائتين. وكان عليّ أن أستعد لكل الحماقات الحسية التي من الممكن أن تخلفها عندي مثل هذه الحالة وقد قضيت الفترة وأنا أحاور أحلاما صبيانية تحت الغطاء السميك ، ذلك أن الحمى تقود صاحبها إلى هذيان جميل ، ولا يخلو من التصورات الصبيانية.
فالحمى تعيدني أنا تحديداً إلى طفولتي والى مشاعري الأولى الكاريكاتورية تجاه الحياة ، فأفقد جديتي العائلية مطالباً كل من حولي بالاهتمام الزائد بي وبمطالباتي ، ومراعاة كوني عيي.
ومثل كل مرة أشعر بالحاجة إلى أمومة لبونة وطافحة بالحب والحنان ، والى ضرورة تكسير كل ما هو ذو مهابة واحترام ، ويتحولن النساء اللواتي عشقتهن الى صبايا صغيرات يخاطبنني من خلال شرفات أو من خلال نوافذ كان يصعب اختراقها. أو كسر حاجزها الاجتماعي ، وحراس الأنوثة فيها. وتطل علي طفولتي ، وذاك اللعب الشقي في الحارات والأزقة ، ومقارعة كل من حولي بطفولتي الطافحة بالمشاكسة.
ومثل كل مرة وحينما تزورني الحمى على هذا النحو ، أتلذذ بشرب الماء البارد ، وأبدأ بالتدرب على فقدان الطعم في فمي ، حيث يصير طعم الأطعمة نيئاً ومحايداً.
ومثل كل مرة أقع في فخ النوم المتواصل فأفقد إحساسي بتراتبية الزمن ، بين صبح وضحى وظهيرة وعصر ومغرب أو حتى عشاء ، واشعر بالزمن وقد استطال بامتداد موجع.
أما الأحلام فتتحول الى حركة لولبية كابوسيه يصعب الفرار منها ، تظل تتحرك في الرأس بصبيانية موجعة.
ثلاثة أيام من الحمى والقشعريرة ، تجعل الجسد يسدد الضرائب المترتبة عليه بنوع من القسوة ، التي تجعلك وحينما تتعافى منها تشعر أن روحك قد اغتسلت بالألم وأنك خلقت من جديد.
نعم إن الحمى تغسل الروح أحياناً. وهذا ما شعرت به تماماً.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خليل قنديل جريدة الدستور