في روايته ذائعة الصيت "ليلة مقتل التيس" استطاع الروائي صاحب نوبل ماريو فارغاس يوسا ، أن يجسد ببراعة نادرة شخصية الديكتاتور ، وقد وصلت به هذه البراعة حد اختناق القارىء ذاته من سطوة الديكتاتور ، بحيث يشعر القارىء انه هو أيضاً وداخل هذا السرد الروائي معتقل داخل دائرة حكم الديكتاتور الفولاذية.
وتتجلى قوة السرد وتألقه عند يوسا ، وهو يصف لنا هيمنة الديكتاتور على الأمكنة والناس وارواحهم وحتى أعمق أعماقهم السايكولوجية وهو يدب الرعب اينما ذهب واينما حط. ولا يستثني يوسا الرغبات الجنسية المريضة للديكتاتور وبحثه الفاحش عن اللذة ، وبأقصى السُبل وأبشعها.
ويوم البارحة وأنا أفتش في اليوتيوب رأيت العقيد معمر القذافي في مشهد أعاد لي شخصية الديكتاتور كما سردها يوسا في روايته. فقد كان العقيد معمر يتوسد رمال الصحراء الليبية بملابسه الفلكلورية ، وكانت تجالسه الباحثة في اليارسايكولجي اللبنانية "مريم نور" ، وكان العقيد يداعب اصابعها ويمسد على شعرها ومن ثم يغيب معها في عناق غامض يصعب ان تفسر معناه ، لكنه في النهاية لا يخلو من الحميمية.
وقد كانت حركات العقيد مع مريم نور التي كانت تبدو كامرأة خرافية خرجت من اسطورتها الخاصة للتو ، تدل على حاجة غامضة عند العقيد الى اعادة انتاج الأم ، وحينما يضاف الى هذا كله أغنية "مريم.. مريمتي" التي كانت ترافق عرض الشريط ، يتأكد المشاهد أن العقيد القذافي يعاني بالفعل من هذه العقدة.
وكان عليّ وأنا أشاهد هذا الشريط أن أستذكر طلة العقيد في مؤتمرات القمة العربية ، وأصراره على أن تكون هذه الطلة مختلفة عن باقي الزعماء العرب ، وكان عليّ أيضاً تذكر اطلالة العقيد من على منبر الأمم المتحدة في نيويورك ، وكيف كان يرمي
المواثيق الدولية من خلف رأسه.
وكان عليّ أيضا أن أتذكر خطاباته الفكاهية الأخيرة في الشعب الليبي ، وقدرته في الاصرار على البقاء في السلطة رغم هذا السيل الجماهيري الليبي الهادر الرافض له ولعائلته ، ولكل اساليب الهيمنة التي اتبعها في قتل المتظاهرين.
لكني في النهاية فشلت في تجميع كل هذه المشاهد مع مشهد عناقه اللحوح لمريم نور ، وربما هذا ما جعلني أسأل نفسي بقسوة قائلاً: "ضمن أي غيبوبة حضارية استطاع هذا الرجل أن يحكم شعب ليبيا لما يزيد عن الأربعين عاماً".
وما زلت أبحث عن الاجابة.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خليل قنديل جريدة الدستور