كنت عاكفاً منذ عهد قريب على حل لغز في لعبة ذكاء محبوبة عندنا في البيت، عن خلد يجمع طعامه وكنوزه في متاهة من الخنادق والصخور، فعليه أن يرسم طريقه بين ذلك رسماً دقيقاً وإلا علق وعجز دون إدراك منزله. لقد كنت ذلك اليوم أنظر في خريطة واحدة من أصعب مستويات اللعبة، أصوب نظري إلى الخريطة باحثاً عن الحل فإذا كل ما أراه أمامي زحمة من التربة والخنادق والصخور، ولكن تبع ذلك أمر غريب، إذ بينما أنا كذلك أنظر في الخريطة وأعمل ذهني فيها، إذا بذلك الضجيج كله من أجزاء المتاهة يستحيل إلى شيء ذي معنى، وفجأة لم يعد ما أراه بعد ذلك مجرد تربة وصخور، بل بت أرى الصخور وهي تسقط في مواضعها الصحيحة فتصنع طريق الخلد إلى باب بيته، ورأيت صورة الحل الصحيح خلف ستار الضجيج الحاجب الذي لم يكن يوحي بأنه غير كومات متداخلة من هوات وحجارة ليس لها مغزى. وذكرت عندها ذكرى قديمة وقعت لي وأنا طفل، إذ دخلنا أنا وأخي منزل قريب من أقاربنا الأبعدين، فلما دخلنا لفت انتباهنا لوحة علقت على الحائط، ما ثم فيها شيء غير نقاط منثورة منها نقاط بيض وزهرية  وبين ذلك، قد تداخل كل ذلك بعضه في بعض فهو عديم من أي مغزى، ورأت صاحبة المنزل فضولنا فشرحت لنا أن هذه اللوحة ليست مجرد نقاط ملونة، وإنما هي صورة! سألناها: كيف؟ قالت: إننا إن نظرنا إليها بالطريقة الصحيحة تجلت لنا ورأينا ما فيها. وجربنا أنا وأخي يومها أن نرى ما فيها، وأن نرى الصورة الحقيقية التي تحتجب وراء ما ظاهره ذرات ملونة منثورة كذرات الملح، فلما رأت مضيفتنا أننا لا نفلح فيه ساعدتنا فأرشدتنا إلى أن ننظر إلى السطح الزجاجي للوحة، ففعلنا ما قيل وعندها ظهر لنا ما كان مخفياً، وتبين لنا بين ذرات الملح الملونة تلك مكوك فضائي، من ورائه كوكب يحلق في أجوئه. وكانت صورة حقاً.
وليس غرضي مما ذكرت -بالطبع- أن أحدثكم عن الألغاز والألعاب، إنما تلك أمثلة قد قدحت الأفكار في ذهني فأحببت أن أشارككم فيها، وجرته إلى التفكير في مسألة أخرى سوف أحدثكم عنها قريباً. قلت لكم إن تلك السيدة قد اقترحت أن ننظر إلى غلاف اللوحة الزجاجي، فوقعت وقتئذ على المفتاح السحري لرؤية ما وراء الأمور، ولعلها صنعت ذلك دون أن تدركه. ذلك أنها حين أخبرتنا بأن ننظر إلى اللوح الزجاجي كانت بذلك تخبرنا أن نرتفع بأنظارنا عن بحر الجزئيات، وأن نحلق فوقه فلا يغرقنا بتفاصيله الهوجاء. والآن سأخبركم بالذي جعلني أهتم بقصة الصورة الخفية هذه حتى أكتب من أجلها مقالة، فلقد جعلني ذلك أتساءل: أليس ما ننظر فيه، كل ما ننظر فيه، من علومنا ومجتمعاتنا، أليس كل ذلك مثل لوحة الصورة الخفية! كثير من الناس (بل معظم الناس) يكونون في داخل تلك اللوحة التي حدثتكم عنها، غارقين حتى آذانهم في بحار التفاصيل التي لا تدرك ولا تفهم، ثم يأتون بعد ذلك فينظّرون لنا في مشكلاتنا الكبيرة فيخرجون بتشخيصات خاطئة بعيدة كل البعد عن الصواب. نعم، هذا هو لب المسألة كله. فلقد كنت أنا نفسي أظن من قديم حين أنظر في مشكلات مجتمعاتنا أنّا نستطيع نقفز إلى التنفيذ سريعاً بعد تشخيص بسيط، وكأن التشخيص مسألة قد فرغنا وانتهينا منها، لا أدري أن التشخيص قد يكون في بعض الأحيان خاطئاً فلا ينفع العلاج. وكيف ينجح علاج بني على تشخيص غير صحيح؟ ولا أدري كذلك أن التشخيص كثيراً ما يحتاج إلى مهارة دونها مهارة المصلح "المنفذ" الماهر. عندها رأيت أننا الآن في حاجة إلى أولئك الناس الذين رزقهم الله النظرة الحكيمة الثاقبة، فهم ينفذون ببصائرهم إلى حقائق الأمور وأصول المشكلات، لا تعميهم التفاصيل مهما كثرت وتزاحمت. فعلى أولئك الحكماء واجب نبيل، هو أن يواظبوا أبداً على أن يبينوا للناس حقيقة الأمور لأن العامة كثيراً ما يعانون ضعف التمييز، وأن يوجهوا حركة الناس فيعيدوهم إلى جادة الصواب كلما حادوا عنها. ونحن اليوم في حاجة ماسة إليهم، فلقد تأخرت أمتنا وتخلفت عن الركب، وصار كل فرد منا يحس غصة في قلبه لأنه ينتمي إلى أمة هذه حالها، ولن نغير الحال ما لم نضع أيدينا على مواضع الخطأ الصحيحة ثم نجد في العمل بعد ذلك.
إننا نريد ناساً لا يغرقون في لجة ذرات الملح، ولكن ينفذون بأنظارهم الثاقبة خلال ذلك حتى يروا الصورة المختفية وراءها، ويبينوها للناس من بعد ذلك. فلله در أولئك الناس!

المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع