بعيداً عن انطباعات العلاقات العامـة والبروتوكلات الرسميـة، انتهت أول زيارة لأول رئيس عراقي في العهد الجديد، كان من الحكمـة السياسيـة والتاريخيـة ان يكون مقصدها عمـان. إذ استقُبل المناضل الكردي جلال الطالباني في عمان استقبال الملوك والرؤساء، مما يحمل دلالات عميقـة، تشير إلى ان العلاقات الأردنيـة – العراقيـة هي خلاصـة الجغرافيـا والتاريخ والمصالح، كما هي خلاصـة تفاعلات وتبادلات صاغها الشعبان، بغضّ النظر عن تحولات النخب السياسيـة.
      بالتأكيد فإن العلاقات الأردنية العراقية، ببعديها الشعبي والرسمي، اكبر بكثير بالنسبة للطرفين، من أنابيب البترول والمنح النفطية، إنها علاقات تحكمها الجغرافيا السياسية والأبعاد والمضامين المجتمعية التاريخية، وتراكم كبير لخطوط من المصالح السياسية والاقتصادية والمجتمعية، عبر تاريخ من التفاعلات ضمن محددات السلوك السياسي داخل ما كان يسمى النظام الإقليمي العربي، وفيما يتيحه من فرص الاعتماد المتبادل بين الوحدات السياسية العربية. إذ لم يتوقف الأمر على ما شكلته التجارة البينية المتبادلة بين الأردن والعراق من حجم فاق مثيلاتها بين أي دولتين عربيتين طوال العقود الماضية، ولا ينحصر بأكبر زخم شهده بلدان عربيان في تبادل الطلبة وحركة المثقفين ومؤسسات المجتمع المدني، في الوقت الذي لم تتحمل دولة عربية عبء الحصار الغربي على العراق مثل الأردن. وكما هو الحال في استقبال الرعايا العراقيين طوال عقد ونصف من الأزمات والحروب المتتالية، كان طريق عمان- بغداد الخط الأكثر سخونة بين عاصمتين عربيتين في حركة الناس والسلع والأفكار أيضاً.
      هناك علاقات يخبرنا عنها التاريخ لا يمكن أن تتغير باختلاف القيم السياسية وتبدلها، خذ على سبيل المثال سلوك ألمانيا وسط أوروبا ومشروعها التاريخي الثابت في المجال الحيوي، وان اختلفت أدوات التعبير عنه من بسمارك مروراً بالاستراتيجية المكشوفة في عهد هتلر وصولاً الى المستشار الأخير شرودور، هي حقائق الجغرافيا السياسية، وما تمنحه لتفاعلاتها من أبعاد مجتمعية تصنع التاريخ ولا يمكن تجاوزها، وهو الحال بصياغة أخرى في النموذج الأردني العراقي. فمنذ حلف بغداد ونوري السعيد وظلال الحكم الهاشمي في العاصمتين، مروراً بانقلاب 14 تموز 1958، وقدوم وخروج تيارات متعددة وصولاً الى استقرار الأمر للبعثيين طوال الحقبة الماضية، حافظت صيغة "عمان- بغداد" على واحدة من أوسع وأكثف التفاعلات السياسية التعاونية دون أزمات حقيقية ترصد، سوى أزمات آنية سرعان ما يتم تجاوزها. وحتى في أوقات انخفاض حرارة العلاقات الرسمية، لم تكن التفاعلات الشعبية والاقتصادية تتأثر كثيراً بذلك. وفي القراءات السياسية التقليدية للتحالفات العربية، التي تقسم فيها العواصم الى مصفوفات متقابلة في أوقات الحروب العربية الباردة، ووفق المصالح المتبادلة، ترد صيغة "عمان- بغداد" مقابل "دمشق- القاهرة"، ثم "عمان- بغداد" مقابل "دمشق- الرياض"، واحيانا "عمان- بغداد- القاهرة" مقابل "دمشق- طرابلس- طهران"، وهكذا في مصفوفات لا تنتهي من التبدل في أمزجة العواصم، كان الثابت الوحيد فيها صيغة "عمان- بغداد".
      إننا معنيون بالحفاظ على صورة الأردن بدون تشويه في أوساط العراقيين، من جماهير ونخب ومثقفين وقادة رأي وعشائر، الذين يعانون موتاً بارداً وميلاداً صعباً وعسيراً، في واحدة من أقسى وأدق لحظات تاريخهم. فالرهان الأردني يجب أن يتوجه نحو مستقبل العراق وليس نحو حاضره وحسب، ويجب أن ندرك أن العراق يتشكل في هذه الأثناء، مما يعني ضرورة الالتفات والرهان على إعادة بناء وتمأسس التقاليد والقيم السياسية العابرة للحدود بين البلدين، وهو الأمر الذي سيأخذ في الحسبان الكثير من الود العراقي للأردن في الأوساط العامة، وبين العشائر وعلماء الدين والمثقفين وقادة الرأي. إلى جانب ذلك، ثمة رأي عام عراقي مناوئ للأردن، ويحمله جزءا من مسؤولية وممارسات النظام السابق، لن يتراجع بسهولة وسيبقى حاضراً ولو لوقت قريب.
      نعلم ان الأردن السياسي قد يكسب جولات ويخسر اخرى، وفق ميزان التراجع والصعود في النخب السياسيـة بعد الاحتلال، ولكن هدا المزاج السياسي المتقلب لن يستمر طويلاً، إلى ان تبنى المؤسسات العراقيـة، وتدشن تقاليدها تحت السيادة الوطنيـة العراقيـة، وعندها سيتأكد للجميع بأن المصالح الوطنيـة هي محصلـة الجغرافيا والتاريخ واشتباكهما الذي لا ينتهي.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد