(ليست هذه الكلمات تاريخًا، ولا مذكرات، ولا ذكريات، ولكنها قطوف من كل ذلك بقدر ما تسعف به الذاكرة تلقائيًا، وقد يعوزها التسلسل التاريخي، ولكن لا يعوزها الصدق والبعد عن الإسراف، والشطط، والمغالاة).

المنزلة في غمار الجاهلية والدم:

في منتصف الأربعينيات تقريبًا،- ولم أكن قد تجاوزت العاشرة من عمري - ، رأيت في شارع المحطة مظاهرة من بضع مئات من أهل المنزلة، كانوا يحملون نعشًا رمزيًّا ويصرخون في هتاف متهكم (أبو كرش جماص عايز ينزل الوزارة .. أبو كرش جماص عايز ينزل الوزارة). "عبد العال يا عبد العال.. أنت العال.. أنت العال.."
لم أفهم شيئًا مما سمعت، ومما شاهدت، وبعد ذلك أدركت أن عباس عصفور المحامي (وهو من المطرية دقهلية) رشح نفسه لمجلس النواب ضد عبد العال شلباية وهو من أعيان المنزلة. و "الجماص" هو القواقع البيضاء الصغيرة المتخلفة من "أم الخلول"، وأبو كرش "جماص" أي الذي ملأ بطنه بأكل "الجماص" , وذلك - كما قلت من باب السخرية - ، كما أن أهل المطرية يسخرون من أهل المنزلة بوصفهم بأنهم "بنوع الكسبة والليمون" , وهي استعمالات لا تجري إلا على ألسنة العوام. وطبعًا لا بد أن تكون هناك مظاهرات مضادة قامت في المطرية.
وكنا نتمنى ألا تخرج المظاهرة عن حدود اللياقة والخلق، ولكنها الحماسة والتعصب الإقليمي، وتبقى الدلالة المستساغة لهذه المظاهرة هي وحدة صف المتظاهرين، بصرف النظر عن الأحياء التي ينتسبون إليها في المنزلة.
ثم ظهر الانقسام والتعصب المنكود:
إذ أصبحت المنزلة قسمين أو حيين كبيرين (ويطلق على الحي اسم حارة). فالحارة الأولى هي حارة المعصرة، والثانية هي حارة الطوابرة أو النجارين، وسميت حارة المعصرة بهذا الاسم؛ لوجود معصرة ضخمة لاستخراج زيت السمسم، وبعد عصره يبقى الكسب الذي يشتريه رقاق الحال، كإدام مع الخبز، وكان أهل المطرية يسخرون من أهل المنزلة "بتوع الكسبة والليمون"؛ لأن الكسب أساسًا طعام للحيوانات.
أما الثانية فربما رجع ذلك إلى أهم عائلة.. وهي عائلة طوبار ذات التاريخ المجيد في التصدي للفرنسيين، ويرجع أيضًا إلى الحرفة الغالبة على سكانها وهي النجارة، وبالنظر إلى الانتخابات نرى أن حارة المعصرة كانت صاحبة الحظ الأوفى في النواب، ويتمثل ذلك في آل شلباية، الذين تقدموا لمجلس النواب بالشخصيات الآتية (بالترتيب التاريخي):
1ـ عبد العال شلباية.
2ـ أحمد عبد العال شلباية.
3ـ السعيد شلباية.
4ـ عرفات شلباية.
5ـ أحمد محمد شلباية (نائب المنزلة الحالي عن الحزب الوطني).
أما حارة النجارين، أو الطوابرة، فلم يرشح منها إلا واحد هو أبو السعود المرسي السودة سنة 1944م، في مواجهة أحمد عبد العال شلباية، الذي وفق وانتخب نائبًا.
وبدأ الصدام الدامي المر بين الحارتين.. واستخدم الفريقان كل أنواع الأسلحة ابتداء من الحجارة، وانتهاء بالبنادق، والمدافع الرشاشة، وسقط عدد من القتلى أذكر منهم: عثمان القيعي (قفاص)، وشخصًا من عائلة عرابي (نجار) وثالثًا من عائلة عبد الحي (تاجر طيور متجول). عدا عدد كبير من الجرحى.. زيادة على نهب البيوت، والمحلات، وسادت الفوضى، وقامت حملة من ثلاثة آلاف من رجال الأمن على رأسهم الضابط الجبار عباس عسكر.
وعجز هذا "الفيلق" عن القضاء على الفوضى، وانسحب عباس عسكر الجبار بفيالقه بعد إخفاقهم الذريع، ليحل محلهم كتائب الهجانة الذين يراهم أغلب أهل المنزلة لأول مرة.. لقد زرعوا الرعب في قلوب الناس، فلزموا بيوتهم من المغرب؛ لأن الهجانة لا يتكلمون إلا بالكرابيج السودانية.
وأذكر في هذا السياق واقعة طريفة، وهي أن "حسن دُغْمش" السقاء كان يحمل قربة ماء على ظهره لتوصيلها إلى أحد البيوت، فأوقفوه وصرخوا في وجهه: "أنت سارق خروفة؟" وظلوا يعملون فيه كرابيجهم إلى أن سقط مغشيًا عليه، بين الموت والحياة.
وبعد الهدوء النسبي غادر الهجانة المنزلة، ولكن ظلت"عصبية" الحارة.. كما هي: معصرة.. وطوابرة، مع ملاحظة أن هذا التقسيم معتمد على موقع السكن، وليس وراءه عقيدة، أو مذهبية.
*****
وأصبح "شَـكَـل الحارتين" يؤرخ به: فيقال: حدث ذلك قبل شَكَل الحارتين، أو بعد شَكَل الحارتين بسنة.
كل ذلك يحدث والإخوان على الحياد، لا يميلون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما أن الإخوان كان منهم المعصراوي (ساكن حارة المعصرة)، ومنهم الطوابراوي (ساكن حارة طوبار)، وكلهم بحمد الله ألف الله بين قلوبهم، وجعلهم بنعمته إخوانًا.
كما أن شعبة الإخوان انتقلت من حي إلى حي، بشكل طبيعي بلا حساسية، فعقيدة الإسلام أقوى من كل تعصب إقليمي.

الإخوان والعصبية الإقليمية:

استطاع الإخوان باستعمال وسائل مباشرة، وغير مباشرة، أن يخففوا ـ إلى أقصى حد ـ من هذه العصبية، حتى نستطيع أن نقول إنها اختفت تمامًا في وقتنا الحاضر. ومن هذه الوسائل:
1ـ حرص الإخوان على أن يكونوا قدوة حسنة للناس في المحبة والتآلف والتعاون، مع إيمانهم لا بإقليمية النسب، بل بإسلامية الرابطة. على حد قول الشاعر:
أبي الإسلام لا أبًا لي سواه              إذا افتخروا بقيس أو تميمِ
2ـ كما كان الإخوان أحرص الناس على مصلحة أهل المنزلة، وحمايتهم من كل سوء، كما رأينا فيما أدوه من خدمات عندما هاجم وباء الكوليرا مدن مصر وقراها. وأهل المنزلة لا ينسون موقفهم من الهجمة التنصيرية الصليبية البشعة.
3ـ وعاش إخوان المنزلة مثالاً طيبًا للتسامح، ومقابلة إساءات الآخرين بصدور رحبة، ولا أنسى موقفًا لهم يدل على هذه السمة، كان في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي. وخلاصته أن الإخوان ساروا في عرض للجوالة، وقد كانوا يومها من بضع مئات.
فلما وصل الجوالة إلى ساحة "سوق السلاموني" ـ في حارة المعصرة ـ ظهر قرابة ثلاثين شابًا، يحملون العصي والنبابيت، وأخذوا يقذفون الجوالة بالطماطم، والبيض الفاسد، فأمر الأستاذ محمد قاسم صقر العرض بالوقوف مكانه ( وكان هؤلاء ينتسبون لحزب الوفد الذي كان ضد الإخوان على طول الخط )، وانضم  الأستاذ قاسم إلى المظاهرة التي كانت بقيادة "منصور حمزة فراج" ـ أحد فتوات حارة المعصرة ـ وأخذ يهتف معهم "عدو الوفد عدو الدين.. عدو الوفد عدو الدين". وبذلك "حرق ورقتهم"  وصمتوا وانسحبوا، وقد كست حمرة الخجل وجوههم، ثم انضم عشرات منهم بعد ذلك إلى الإخوان , وأصبحوا من خيرة الأعضاء العاملين.
4ـ ودأب دعاة الإخوان وخطباؤهم في المساجد والندوات والمحاضرات  على توجيه الناس إلى التسامح، والإخوة، والتعاون، والبعد عن العصبية الجاهلية. إلى أن انتزعوا من قلوب الناس هذا التعصب الإقليمي "للمعصرة والطوابرة".
واتسعت قاعدة الإخوان في المنزلة، وانتشرت دعوة الإخوان بين الطلاب والمثقفين بخاصة، وأصبح للإخوان شعبية تصغر أمامها شعبية أي حزب آخر.
وبعد أن كانت الهتافات "أبو كرش جماص عايز ينزل الوزارة" وشلباية بيه، والسودة بيه "، حل البديل الحميد الذي كانت مصر تهتف به "الإسلام هو الحل، "شرع الله عز وجل . الإسلام هو الحل , ما في غيره ينفع حل".
وقد سعدت حينما رأيت أطفالاً صغارًا لم يتجاوزوا الثامنة من عمرهم، وقد أمسك بعضهم بقطع صغيرة من الأغصان، وهم يهتفون بعفوية وحماسة: "الإسلام هو الحل"، "الإسلام هو الحل".
إنه الجيل الجديد يصنعه الله على عينه، ليتلقى الراية، ويكمل المسيرة.. مسيرة الحق، والنصر، والنور.

المراجع

رابطة أدباء الشام

التصانيف

أدب