منذ ان أطلق رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي مقولته الشهيرة حول أوروبا القديمـة فتحت شهيـة الحديث حول حقبـة جديدة في العلاقات عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة وأوروبا ازداد فيها تصاعد التباعد والخلاف الاستراتيجـي حول ملفات عديدة أهمها الأوضاع في العراق والملف النووي الإيراني والأوضاع في الشرق الأوسط وقضايا البيئـة والتسلح وغيرها من القضايا والموضوعات.
 
     وإذ كانت الأعوام الثلاثـة الأخيرة هي التي شهدت تصدع العلاقات التاريخيـة وبدايـة تمزيق النسيج الذي حبك جيداً طوال عقـود الحرب الباردة، إلا ان تناقض الاستراتيجيات الخفي يعـود إلى طبيعـة تركيبـة العلاقات الدوليـة صبيحـة نهايـة الحرب الباردة التي كفلت تبادل المصالح ودعمت الاعتماد المتبادل طوال أكثر من أربعـة عقـود.
 
     يبدو ان الولايات المتحدة تدرك انها انحازت كثيراً نحو استفزاز الحلفاء التاريخيين في سنوات العبور نحو ترسيخ أعمدة النظام الدولـي الذي تتزعمـه، مما احتاج إلى شخصيـة بحجم وسلوك رامسفيلد وخطابـه السياسي الذي ترك أولئك الحلفاء وحدهم وأعلن " ان المهمـة هـي التي تحدد طبيعـة التحالف أما التحالف، فهـو لا يجب ابداً ان يقوم بتحديد طبيعـة المهمـة".
 
     في هذه الأثناء تبقى ثمـة فرص لاستمرار الخلاف الأوروبي – الأميركي على المحور الفرنسي – الألماني وسيحاول هذا المحور ضم قوى جديدة مثل روسيا والصين إلا ان فرص تشكيل تحالف جديد مضاد للولايات المتحدة ستبقى ضئيلة. فلقد أثبتت الاحداث والتفاعلات السياسيـة والدبلوماسيـة خلال الشهور القليلـة الماضيـة نهايـة مقولـة أوروبا القديمـة وعـودة الدفء للعلاقات بين الطرفين مجدداً، فالولايات المتحدة سعت مؤخراً إلى تحسين علاقاتها مع أوروبا بخطوات دبلوماسيـة في حين جاءت التنازلات في اغلبها أوروبيـة، حيث قادت وزيرة الخارجيـة الأميركية دبلوماسيـة العواطف مع أوروبا التي أكملها رئيس بوش في أول زيارة خارجيـة له في ولايته الثانيـة.
 
     ولعل آخـر خطوات التقارب ونهايـة أجواء الحذر والتوتر جاءت حيال الملف النووي الإيراني، حيث تخلت أوروبا عن صوتها المستقل الذي تمثل في الحوار المنفرد مع إيران، وعمل على إعاقة أو ربما المناورة بتأجيل إحالة الملف الإيراني النووي إلى مجلس الأمن، الأمر الذي تناقض مع رغبـة الولايات المتحدة، حيث عادت أوروبا إلى الاصطفاف خلف الولايات المتحدة في المطالبـة بإنهاء البرنامج النووي الإيراني ويتم اليوم تقديم إغراءات اقتصاديـة جديدة من بينها دعم إيران في الانضمام إلى منظمـة التجارة الدوليـة وتوفير قطع غيار لطائرات وأسلحة إيرانية وتزويد إيران بتكنولوجيا جديدة.
 
     ويعيدنا التقارب حول إيران إلى انباء ترددت خلال الأسابيع الماضيـة واثناء زيارة الرئيس الأميركي لأوروبا حول وثيقـة مشتركـة أعدها خبراء في المجالات السياسيـة الخارجيـة والأمن القومي ووقع عليها خمس وخمسون شخصيـة في تلك المجالات من الطرفين تدعـو إلى تعميق الشراكـة السياسيـة والاستراتيجيـة وترميـم التحالف الأوروبي الأميركـي، حيث حددت تلك الوثيقـة الملامح الجديدة لسياسات مشتركـة ومتفق عليها حيال القضايا التي أثارت فتيـل الخلاف وادخلت الطرفين في نوبـة صداع، في الملف العراقي تدعـو الوثيقـة إلى إعلان الولايات المتحدة لحوار استراتيجي مع أوروبا حول مستقبل العراق بواسطـة تشكيل مجموعـة اتصال جديدة مما يتطلب من أوروبا تدريب خمسـة آلاف موظف مدني عراقي وخمسـة وعشرين ألفا من قوات الأمن والشرطـة في حين سُيمنح الاتحاد الأوروبي مساعدات على شكل أموال إعادة إعمار في العراق، وفي الشأن الإيراني تدعو الوثيقـة إلى التزام أوروبا والولايات المتحدة بالعمل على إنهاء البرنامج النووي الإيراني، وتعلن دول الاتحاد الأوروبي عن استعدادها لفرض عقوبات على إيران في حال رفضها إنهاء برامجها النوويـة، في حين تلخص الوثيقـة التعاون في الشرق الأوسط في تشجيع التطور السلمـي للمجتمعات الديمقراطيـة وعمليات الإصلاح السياسي في المنطقـة، كما تدعو الوثيقـة إلى إنشاء مؤسسـة مستقلـة للديمقراطيـة فـي الشرق الأوسط يمولها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بمبلغ مئة مليون دولار، وتتابع الوثيقـة استعراض القضايا موضع الخلاف وتقدم رؤيـة جديدة لحلها تبدو في المحصلـة أقرب إلى الرؤية الأميركية وجدول أعمالها لإدارة العالم الجديد.
 
     وفي الحقيقـة يبدو ان الاتحاد الأوروبي قد توصل إلى قناعـة مفادها بأن المسافـة مع الولايات المتحدة ما تزال بعيدة في ميزان التنافس وقريبـة في ميزان التحالف والتعاون، فالولايات المتحدة تمتلك القوة الأولى عالمياً عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجيا وليس الأولى وحسب، بل وتقف على مسافـة بعيدة عن القوى التي تليها في العالم، على سبيل المثال نجد ان الإنفاق العسكري الأميركي وصل إلى (480) مليار دولار بينما القوة الثانيـة وصل إنفاقها (50) مليار دولار وأوروبا بجميع دولها لا يصل إنفاقها إلى نصف ما تنفقـه الولايات المتحدة إلى جانب ما تملكـه الولايات المتحدة من قوة سياسيـة ودبلوماسيـة في العالم تعمل اليوم بشكل جدي وسريع على إعادة الانضباط الدولي خلفها.
 
     في الجهـة الأخرى مازالت الحركـة التكامليـة والوحدويـة الأوروبيـة تعاني من تحديات داخليـة كبيرة وعلى الرغم من إنجازاتها الاقتصاديـة، فهي ما تزال تفتقد لأركان أساسية في الاستقلاليـة أهمها الافتقاد لسياسيـة خارجيـة موحدة ومشتركـة في الأهداف والمنطلقات، وافتقادها لسياسة أمنية مستقلـة عن الولايات المتحدة.على الرغم من إنشاء منصب سياسي ممثل لتلك السياسية، إلا ان ذلك لم يؤد إلى اختفاء السياسات الوطنيـة وتناقضها.    

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد