من الواضح ان المسار التنموي السياسي في الأردن يعتمد منذ نشأة الدولـة قبل أكثر من ثمانيـة عقود على المداخل المتعددة في الإصلاح والتغير ولم يحدث ان انفرد مدخل واحد في بلورة مسار الدولـة والمجتمع بشكل مستقل، إذ لا نجد ان مدخلاً واحداً حسم مرحلـة كاملـة بسماته، وأهم هذه المداخل حالـة الطوارئ التاريخيـة المحيطـة والمتعلقـة بالظروف الإقليمية التي لم تعرف الهدوء طوال القرن الماضي وما تزال، ثم المدخل الخارجي المرتبط بالإرادة الدوليـة وقراءة النظام السياسي للمصالح الوطنيـة، أما مداخل الإصلاح والتغير الداخلية فتقف على رأسها مؤسسة العرش الممثلـة بجلالـة الملك ثم السلطـة التنفيذيـة الممثلة بالحكومـة واخيرا تأتي القوى المجتمعيـة ومؤسسات المجتمع المدني.
 
     ولعل النموذج الأردني في الإصلاح المعتمد على المداخل المتعددة وحالـة التوافق المجتمعي قد حقق إنجازات نسبية حافظت على صيانـة واستمراريـة الدولـة في وسط حساسيات متعددة، ويبدو ان صيغـة المداخل المتعددة وتبادلها للأدوار وحركة التقدم والتراجع فيما بينها عبر المراحل قد شكـلت نوعاً من الهندسـة السياسيـة والاجتماعيـة التي حافظت على صيانـة الدولة واستمراريتها، لكن هذا الأمر وحده لا يكفي لدولـة شارفت على الاقتراب من قرن من عمرها، حينما نكتشف ان مشاريع الإصلاح والنهوض الوطني عادة ما تفرغ من مضامينها وتوظف سياسياً في إدارة علاقات الداخل بالداخل وعلاقات الخارج نحو الداخل، وبالتحديد في مجال الإصلاح السياسي وتطور أداء النظام السياسي لوظائفه الأساسية التي تشكل مجمل مضامين التنمية واتجاهاتها في مختلف المجالات.
 
      هذا العام يكمل مسار الإصلاح السياسي الأردني عقدا ونصف العقد من عمره، كان من الطبيعي ان يتقدم هذا المسار مرة ويتراجع مرات، وان يمر بانعطافات قاسية ومؤلمة احياناً، لكن الأمر غير المبرر ان المجتمع السياسي الأردني بمختلف أطرافه وأطيافه لم يشكل بعد الوعي والإرادة نحو رؤيـة وطنيـة لمستقبل الحياة السياسيـة وكأن مرور خمسـة عشر عاماً لم تكن كافيـة لتكوين مقدمـة موضوعية لسيناريو الإصلاح والتحديث السياسي حيث عجزت الحكومات المتتالية والمؤسسات السياسية والمجتمع المدني والقوى السياسيـة المستقلـة ليس فقط عن طرح سيناريو واضح وضمن برامج زمنيـة وتدرج عقلانـي يلقى توافقا مجتمعيا وارادة سياسيـة لتحقيق إنجازات واقعية، بل عجزت هذه الاطراف عن التفكير بصوت عالٍ أو إدارة حوار وطني موضوعي حول سيناريو الإصلاح والتحديث السياسي في الأردن، الا الحوارات السياسية أو السجال الذي يدار لصالح جهـة ما أو قضيـة ما والمرتبط عادة بمصالح آنيـة ولطرف محدد.
 
     سيناريو الإصلاح والتحديث السياسي يرتبط بشكل أساسي بمداخل الإصلاح وبالقوى التي تقوده ولقد وضح مؤتمر أولويات وآليات الإصلاح في العام العربي الذي عقد في القاهرة العام الماضي في بيانه الختامي أربعة سيناريوهات افتراضيـة لمسارات الإصلاح في العالم العربي ان شاءت لها الظروف ان تتحقق وهي :أولاً إصلاح مفروض بالقوة من الخارج على نمط ما يقال انه يحدث في العراق، في حين ان النتائج ما تزال مخيبـة لامال اكثر المتفائلين، فوق هذا وذاك فالظروف التي سادت في العراق قبل الاحتلال والبيئـة الدوليـة آنذاك تنفي إمكانية تكرر هذا السيناريو مرة أخـرى.
 
ثانياً : سيناريو الإصلاح الثوري، حيث ان مقومات هذا النمط من الإصلاح غير متوفرة في العالم العربي، علاوة على ان تجارب الثورات العربية التي طالما ادعت الإصلاح قادت بالاتجاه المعاكس في اغلب نتائجها التاريخيـة.
 
ثالثاً : سيناريو الإصلاح من أعلى والذي يعتمد على التدرج وعلى توفر إرادة جادة من قبل النخب الحاكمـة على احداث الإصلاح وعلى حيويـة القوى المجتمعيـة وقدرتها على استيعاب التغيير والاستجابـة له، ومثاله المعروف النموذج المغربي في الإصلاح التدريجي القائم على توافق نسبي بين النظام الملكي والأحزاب السياسيـة وقوى المجتمع المدني.
 
رابعاً: سيناريو المجتمع المدنـي والذي يعنى وصول مؤسسات وقوى المجتمع المدني إلى مستوى من التطور يمكنها من احداث تغير نوعي في علاقتها بالنخب الحاكمـة تجبر الأخيرة إلى الانحياز نحو مشروع الإصلاح.
 
     وبإعادة فحص الحالـة الأردنية في ضوء هذه السيناريوهات الافتراضيـة نجد ان الأقرب لها في هذه اللحظـة التاريخيـة هو سيناريو الإصلاح من الأعلى إلا ان ثمـة فجوة واضحـة في الإرادة السياسيـة وفي القدرة على الحركـة والديناميكيـة وفي اقتراح البرامج وتنفيذها بين رأس الدولـة والسلطـة التنفيذية وهي فجوة واضحـة وليست وليدة اليوم وتحتاج إلى قراءة متأنيـة وجرأة وطنيـة في التشريح ورصد مضامينها ومواطنها. 
 
     ولكن، في المجمل تبقى السيناريوهات الأردنية مفتوحـة للإصلاح والقبول بفكرة التغير الذاتي والإصغاء الحذر للخارج ولعل النموذج التوفيقي الذي أنجزته كل من الدولـة والمجتمع عبر تعدد المداخل يستحق ان يبنى عليه وان يخضع هو الاخر للإصلاح؛ وأكثر ما يتطلبـه المأسسة وبناء ثقافـة سياسيـة وطنيـة جديدة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد