صبيحة يوم 29أوت 1966 نفذ حكم الإعدام شنقا في احد مجدد ي الفكر الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري الأستاذ سيد قطب عن عمر ناهز ستين سنة فلحقت روحه بأرواح إخوانه الذين سبقوه إلى حبل المشنقة بعد أن كانوا جميعا من بناة الحركة الإسلامية، لحق-رحمه الله-بذلك الركب الكريم الذي استرخص المهج في سبيل الله ،لحق بعبد القادر عودة ومحمد فرغلي ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب أغدق الله عليهم شآبيب الرحمة جميعا،وذنبهم-كالعادة-التآمر المزعوم للإطاحة بنظام الحكم،ومحاكمتهم-كالعادة أيضا - مسرحية مفبركة يستنكرها أهل الأرض ورب السماء.
مداد العلم ودم الشهادة:
في مدة لم تتجاوز 16عاما عاشها الشهيد السعيد في جماعة الاخوان المسلمين ألف كتبا في الفكر والدعوة والحركة شكلت فتحا ربانيا لما حملته من تجديد عميق جلى الافهام ونور العقول وأعطى للفكر الإسلامي بعدا حركيا نابضا بالحياة يستمد روحه من القرآن الكريم،فعمق مناهج الجماعة وبلور غايتها وعرى الجاهلية ورسخ الثقة في النفوس،فكان آية في العلم بكتاب الله وواقع الناس،ثم ختم المشوار بشهادة رزقها-فيما نظن-جزاء إخلاصه وثباته وصموده ووفائه،شهادة زينتها مواقفه الرافضة لمساومات الطاغية ووعده ووعيده وكللتها كلمته الخالدة لجلاده الذي حاول استصدار طلب عفو منه:إن السبابة التي أشهد بها في كل صلاة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا يمكن أن تكتب سطرا فيه ذل أو عبارة فيها استجداء.
هكذا اجتمع مداد العلم ودم الشهادة ورشحا سيد قطب لمنزلة الخلود في ساحة العمل الإسلامي وسجل الدعاة العاملين والشهداء الفائزين وكان من فضل الله عليه أن ما لا يحصى من الألسن تلهج بذكره،وقد أصبح منارة لأبناء الحركة الإسلامية في العالم كله.
التجديد الفكري انطلاقا من القرآن:
سلك الشهيد السعيد مسلك أرباب الإصلاح الإسلامي أمثال محمد عبده وابن باديس والمودودي فعمد إلى القرآن الكريم يستلهمه ويستمد منه التصورات والرؤي والمناهج والخصائص فألف تفسيره الفذ(في ظلال القرآن)الذي يعتبر فتحا في عالم التفسير لما امتاز به من عمق في الفهم وأصالة في التناول وحركية في الطرح حتى أصبح بحق دليلا للدعاة إلى الله يجمع بين النظرية والتطبيق على الواقع،وإذا كانت طبعته الأولى تفسيرا عاديا فإن الطبعة الثانية التي أنجزها سيد بعد انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين جاءت نقلة بعيدة في التأليف تزخر بالعلم والتفنن في استكشاف سنن الأنفس والآفاق والوقوف على مراد الله تعالى وتحويل هذا المراد إلى حركة حية تهتدي بالعقيدة وحدها وتجابه كل انحرافات البشرية،فإذا أضفنا إلى كل هذا ما عرف به سيد من لغة عربية تدخل القلوب بغير استئذان كنا ليس أمام مجرد كتاب في التفسير وإنما أمام سفر مبارك فيه تجديد ثري بديع للفكر الإسلامي منطلق من كتاب الله لتطبيق شرع الله وتعبيد الناس له.
ويكفي سيد قطب والظلال فخرا أن دورا للنشر كانت على حافة الإفلاس استعادت عافيتها وأصابت ربحا وفيرا باهتدائها إلى طبع هذا الكتاب(بطريقة غير شرعية في أغلب الأحيان) ومن هذه الدور ما كان يمتلكه نصارى لبنان...أما بقية كتب الشهيد الفكرية والحركية فهي عبارة عن مواضيع استقى مادتها من القرآن الكريم وعالجها أو أشار إليها في الظلال باختصار يناسب المقام ثم أفردها ببحوث منفردة تميزت هي الأخرى بالعمق والحيوية والحرارة وتضمنت أفكارا رائدة منها التأكيد على أن المستقبل لهذا الدين وفيها معالجة رائعة لمشكلات الحضارة واستخراج ذكي لخصائص التصور الإسلامي ومقوماته من كتاب الله لينتهي المشوار بعصارة فكر الرجل العملاق(معالم في الطريق)الذي اعتمدته المحكمة عنصر إدانة لصاحبه وحكمت عليه بالإعدام بسببه ،وشاء الله أن يعتمده بعض العاملين للإسلام ميثاقا لهم ومرجعا ومعلما... ويخطأ من يظن أن المعالم هو آخر كتب سيد قطب فقد طبع شقيقه منذ مدة كتاب(مقومات التصور الإسلامي)وأكد أنه آخر ما كتب،والحقيقة أنه لا يقل عن المعالم شموخا وذخرا وفيه من الفوائد العلمية والدعوية ما نحسب أنه لم يسبق إليه.
ويمكن الجزم-بدون مبالغة-أن سيد قطب جدد الفكر الإسلامي بشكل يجعله من الرواد في هذا المجال فألهب المشاعر ونور العقول وحرك الساحة الإسلامية وصدع بكلمة الحق وأحدث منعطفا حقيقيا في مسار الدعوة.
تحفظ لا بد منه:
انبهر أبناء الحركة الإسلامية بعطاء الرجل العظيم-مفكرا وشهيدا-وأثر فيهم أسلوبه الناري الذي يلهب المشاعر ويأخذ بمجامع القلوب فتبنوا فكره وكأنه تنزيل جديد لا يعتريه الخطأ وغالى بعض الشباب متأثرين بالظروف التي ألف فيها سيد كتبه وعاشوها هم كذلك فانتقوا عبارات ومفاهيم كان ينبغي أن يتحفظوا منها وزادوها تأويلا وسبكوها سبكا فأنتجوا فكرا يتبنى التكفير والاستعلاء على الجماهير والانقطاع عن همومها والتخندق بعيدا عن مواطن التأثير خوفا من التأثر،ومازال شباب يستندون إلى ما فهموه من فكر الشهيد فيكفرون بالديمقراطية ويرفضون أي نوع من التعاون مع غير الإسلاميين ويهزؤون مما يسمونه ترقيعا ومداهنة للجاهلية...إلخ
والحقيقة أن مكث سيد قطب في السجن نحو خمسة عشر عاما جعله يحيد في بعض الأحيان عن منهج الاعتدال وهو معذور في ذلك،لكننا غير معذورين إذا لم نقدر الظروف ولم نحتكم إلى الوحي في تقويم عمل الرجال،والتحفظ على بعض الأفكار والآراء لا ينقص من قيمة الرجل شيئا ويكفي المرء فخرا أن تعد معايبه... ولله در المرشد الثاني الذي سارع الى بيان وجه الحق في هذا الامر في أبحاثه"دعاة لا قضاة"
كلمة أخيرة:
مثل كل العظماء لا يزال سيد قطب يحدث تفاعلات في الساحة الإسلامية حيث أحبه قوم حتى كادوا يخلعون عليه رداء العصمة ولا يقبلون مناقشة لآرائه قط،وأبغضه آخرون -خاصة من خصوم الإسلام-حتى اعتبروه رأس التطرف وسبب فتن العرب والمسلمين،أما أصحاب الموازين الصحيحة فيقدرون الرجل حق قدره ويعترفون بأفضاله على الحركة الإسلامية دون أن ينسوا أنه بشر يؤخذ من كلامه ويرد.
فرحم الله سيد قطب الذي تربى على يديه وعلى جيل من الربانيين حماة الإسلام،الرجل الذي عاش مع القرآن ومات من أجله ففتح الله له منه أسرارا ووهبه أنوارا وحسبه أنه من أولئك الذين ماتوا وتحيى النفوس بذكرهم..فهو شهيد حي.
المراجع
pulpit.alwatanvoice.com
التصانيف
أدب مجتمع