يقول ابن منظور – رحمه الله - في معجمه لسان العرب : سلكت الشيء في الشيء ، فانسلك أي أدخلته فيه فدخل ، وسلَكتُه وأسلكته بمعنى واحد – يقصد أنهما متعديان لمفعول – ويقول قاصداً السرعة والدقة في إيجاد المدخل : السّلْك : إدخال شيء تسلكه فيه كما تطعن الطاعن فتسلك الرمح فيه إذا طعنتَه تلقاء وجهه على سجيحته ( سجيته السهلة ) . ولا يكون الطعن إلا سريعاً ينفذ إلى الداخل بقوة ودقة . وعلى هذا فرجل مُسـَلّك : نحيف . والنحافة تسهل عملية السلْك .

وجاء الفعل ( سلك ) بمشتقاته إحدى عشرة مرة تحمل هذه المعاني المتشابهة : 

- ففي قوله تعالى الآية 42 من سورة المدثـّر " ما سللككم في سقر " تسأل الملائكة المشركين سبب دخولهم النار ، : وَقِيلَ : إِنَّ المؤمنين يَسْأَلُونَ الملائكة عَن أَقْرِبَائِهِم , فَتَسْأَل الملائكةُ الْمُشْرِكِينَ فيقولون لهم : " مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر " فأدخلكم فيها ؟ وهذا المعنى واضح في الآيات السابقة لهذه الآية حيث يسأل المؤمنون – وهم في الجنة يتنعمون – الكفارَ في النار " إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين : ما سلككم في سقر " فيجيبونهم بأمرين اثنين كانوا يجتنبونهما " قالوا لم نـَكُ من المصلين ، ولم نـَكُ نطعم المسكين " ففي أولهما استنكفوا عن عبادة الله تعالى ، وفي ثانيهما لم يكونوا يحسنون إلى عباده . ويجيبونهم بأمرين اثنين آخرين كانوا يخوضون فيهما " وكنا نخوض مع الخائضين ، وكنا نكذب بيوم الدين " . أما خوضهم فكان في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اتهموه بالسحر والكهانة والكذب والشعر .. وكانوا تبعاً لعتاة المكذبين الضالين . أما المصيبة الأخيرة قاصمة الظهر فكانت في كفرهم بالله وإنكارِهم اليومَ الآخر .

وأما قوله تعالى في الآية المئتين 200 من سورة الشعراء وما بعدها " كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ، لا يؤمنون به حتى يرَوُا العذاب الأليم " فقد أدخل الله تعالى الشرك في قلوبهم لأنهم طلبوه " قل : من كان في الضلالة فليمدُدْ له الرحمن مداً " وقوله تعالى في سورة الإسراء " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً " فهم – المشركين – لا يؤمنون حتى يقعوا في الواقعة التي لا خلاص منها . ونجد المعنى نفسه في الآيتين الثانية عشرة والثالثة عشرة من سورة الحجر " كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ، لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين " فيكذبون بالقرآن العظيم والرسول الكريم ، فيعاقبهم الله تعالى بإدخال الكفر في قلوبهم ليكونوا من أهل النار ، والعياذ بالله أن نكون من أهلها . 

ونجد في الاية السابعة عشرة من سورة الجن المعنى نفسه إذ يقول الله تعالى " ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صَعداً " والعذاب الصعد : المشقة التي لا راحة فيها . بل تزداد وتيرته وتتصاعد . قال القرطبي " يُكَلَّف الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة أَنْ يَصْعَد جبلاً فِي النَّار مِنْ صَخْرَة مَلْسَاء , يُجذب مَن أَمَامه بسلاسل , وَيضرِب مَنْ خَلفه بِمَقَامِع حَتَّى يبلُغ أعلاها , ولا يبلغ فِي أَربعِينَ سَنَة . فَإِذَا بَلَغَ أعلاها أُحدِرَ إِلَى أَسْفَلهَا , ثم يُكَلَّف أَيْضًا صُعُودهَا , فَذَلِكَ دَأْبه أَبَدًا , وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا " [ الْمُدَّثِّر : 17 ].

أما قوله تعالى في سورة الحاقة يصف عذاب المشركين الكافرين " ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه " . فمخيف ٌوالله ومخـْزٍ إذ تـُدخَل السلسلة مِنْ فِيهِ وَتـُخرَج مِنْ دُبُره , فَيُنَادِي أَصْحَابه هَلْ تعرفونني ؟ فيقولون : لا , وَلَكِنْ قد نرى مَا بِك مِنْ الخِزْي فَمَنْ أَنْتَ ؟ فَيُنَادِي أَصْحَابَهُ أَنَا فلان بن فلان , لِكُلِّ إِنْسَان منكم مثل هَذا . ولعل هذا التفسير أَصَحّ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الآية , يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : " يَوْم نَدْعُو كُلّ أُنَاس بِإِمَامِهِمْ " الإسراء 71 . 

وأود أن أؤكد أن " السلك " في هذه الايات إدخال الشيء في شيء بعد إيجاد مسلك له لم يكن موجوداً من قبل وبهذا يكون الألم الشديد نسأل الله العافية .

- أما في الآية 27 من سورة الجن " إلا من الرتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً " فالمعنى كما قالت العلماء : رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : لَمَّا تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ الْغَيْب واستأثر من البشر من يرضاهم رسله ، وخاب من أشرك به , كَانَ فِيهِ دلِيل عَلَى أَنَّهُ لا يَعلَم الْغَيب أَحدٌ سِوَاهُ , ثمَّ استثنى مَن ارتضاه من الرسل , فَأودعهم مَا شَاءَ مِنْ غَيبه بِطَرِيقِ الْوَحي إِلَيهِم , وَجَعَلَهُ مُعْجِزَة لَهم ودلالة صَادِقَة عَلَى نُبُوَّتهمْ . أما المنجّمون أمثالهم مِمَّنْ يَضْرِب بِالْحَصَى وَيَنْظُر فِي الْكُتُب وَيَزْجُر بِالطَّيْرِ مِمَّن اِرْتَضَاهُ مِنْ رَسُول فَيُطْلِعهُ عَلَى مَا يَشَاء مِنْ غَيْبه , بَلْ هُوَ كَافِر بِاَللَّهِ مُفترٍ عليه بحَدْسِهِ وَتَخمِينه وَكَذِبه . ثم سلك الله ملائكة يَحْفَظُونَهُ عَنْ أَن يقرب مِنهُ شَيْطَان ; فَيَحْفَظ الوَحي مِنْ اِسْتِرَاق الشَّياطِين والإلقاء إِلَى الْكَهَنَة . قَالَ الضَّحَّاك : مَا بَعَثَ اللَّه نَبِيًّا إلاّ وَمَعَهُ ملائكة يَحْرُسُونَهُ مِنْ الشياطين عَنْ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِصُورَةِ الْمَلَك , فَإِذَا جَاءَهُ شَيْطَان فِي صُورَة الْمَلَك قَالُوا : هَذَا شَيْطَان فَاحْذرْهُ . وَإِنْ جَاءَهُ الْمَلَك قَالُوا : هَذَا رَسُول رَبّك. وَقَالَ اِبن عَبَّاس: " رَصَدًا " هم حَفَظَة يَحْفَظُونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمَامه وَوَرَائِهِ مِنْ الْجنّ والشياطين . قَالَ قَتَادَة وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب : هُمْ أَرْبَعَة مِنْ الملائكة حَفَظَة . ونلحظ بالسلك هنا الإحاطة والحراسة والصون . 

- ونرى في الآية 53 من سورة طه " الذي جعل لكم الأرض مهداً ، وسلك لكم فيها سُبُلاً " فجعل الله تعالى الأرض قراراً تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا وَتَقُومُونَ وَتَنَامُونَ عَلَيْهَا وتسافرون على ظهرها وَسَلَكَ لكم فِيهَا سُبُلا أَيْ و طُرُقًا تَمْشُونَ فِي مَنَاكِبهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ " ونلحظ " بالسلك " التنظيمَ والترتيب ودقة الصنع . يقول القرطبي " هي الطُرُق . نَظِيره قوله تعالى " وَاَللَّه جَعَلَ لَكُمْ الأرض بِسَاطًا . لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا " سورة نوح 19-20، والفج : المسلك بين جبلين . 

- وفي الآية 32 من سورة القصص " اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء " نرى السهولة واليسرفي الإدخال والإخراج ، قال القرطبي " إِذَا أَدخَلْت يَدك فِي جَيب دِرْعك ، ثمَّ أَخرَجتهَا فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر فِي لَمَعَان البرق مِن غير بَرَص " وقال الحسن البصري " لما خرجت يده كأنها المصباح أيقن مُوسَى أَنـّه لَقِيَ رَبّه. " 

- كما نجد رحمة الله في الاحتفاظ بالماء العذب النازل من السماء في تجاويف الأرض . يقول الله تعالى " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء، فسلكه ينابيع في الأرض .. " فالماء من السماء ابتداءً " وانزلنا من السماء ماء مباركاً " فَإِذَا أَنْزَلَ الْمَاء مِنْ السَّمَاء كَمَنَ فِي الأرض ثمَّ يَصْرِفهُ تَعَالَى فِي أجزائها كَمَا يَشَاء ، وَيُنْبِعهُ عُيُونًا مَا بَيْن صِغَار وَكِبَار بِحَسَبِ الْحَاجَة إِلَيْهَا . فهذا الإدخال سهل ميسر يُحفظ بأمر الله في الخزانات الأرضية التي جُهزت للاحتفاظ بالماء في بحار عذبة في تجاويف الأرض . 

- أَذِنَ الله تعالى للنحل إِذْنًا قَدَريًّا تَسْخِيريًا أَنْ تأكل من كل الثمَرَات وَأَنْ تسلك الطُّرُق الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى مُذَلَّلَة لَهَا ومُسَهَّلَة عليها حيث شاءت مِنْ هَذَا الْجَوّ الْعَظِيم وَالْبَرَارِيّ الشاسعة وَالأودية وَالْجبال الشاهقة ثمَّ تَعُود كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا إِلَى بَيْتهَا لا تَحيد عنه يَمْنَة ولا يَسرة بَل إِلَى بَيْتهَا وَمَا لَهَا فِيهِ مِنْ صغار وَعَسَل فَتَبْنِي الشَّمْع وتصنع الْعَسَل مِنْ فِيهَا وَتَبِيض الْفِرَاخ ، ثُمَّ تُصبِح إِلَى مَرَاعِيهَا . وَقَالَ قَتَادَة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم " فَاسْلكِي سُبُل رَبّك ذُلُلا " أَيْ مُطِيعَة فجعلاه حالاً مِن السَّالكة. 

ونحن ندعو الله تعالى أن يَسلكنا في عباده الصالحين ، دون حساب ولا عقاب ، وأن يسلكنا الجنة فيجعلها مأوانا ، إنه على مايشاء قدير ، وبالإجابة جدير.


المراجع

islamsyria.com

التصانيف

أدب  مجتمع