في الوقت الذي نشهد فيه تراجع الخطاب العربي الرسمي وتواضع قيمته في الحياة السياسية العامة, فيما يشير إلى بداية تحلل بنية سياسية تاريخية تبرز أهم ملامحها في حالة الاختناق العام التي تخيم على مضامين هذا الخطاب، في هذا الوقت تحل ظواهر أخرى تبني خطابات جديدة لا تقل أهمية عن ظاهرة هدم البنى التقليدية التي تجري بدون انتباه, واهم هذه الظواهر ما ينال الخطاب السياسي الفكري الذي ينتجه المفكرون وقادة الرأي في العالم العربي بمختلف اتجاهاتهم ومرجعياتهم الفكرية من تحولات شبه جذرية تلتقي جميعها في جذر واحد هو احترام العقل وقيم التعددية مما يطمئن بمؤشرات ميلاد عقلانية عربية جديدة تأخرت كثيراً.
وتبدو أهم ملامح العقلانية الجديدة التي زرعت أول بذورها منذ أكثر من عقد ونصف وبدأت تترسخ خلال السنوات القليلة الماضية في إحداث قطيعة يمكن معاينتها بوضوح في هذه الأثناء مع الأفكار المركزية التي سيطرت على الخطاب السياسي العربي خلال أكثر من مئة عام مضت, تدشن هذه القطيعة اليوم على أساس التخلي عن التمرس خلف الفكرة المركزية الكبرى لصالح الوعي التاريخي بقيمه التعددية الفكرية السياسية وبالتالي لصالح خطاب الديموقراطية.
لقد كان من ثمار المراجعة النقدية الواسعة التي تناولت بالنقد والتقييم فعاليات الخطاب السياسي العربي الذي أنتجته مختلف التيارات الفكرية والأيديولوجية علاوة على التأثير المدوي للأحداث الكبرى حدوث مصالحات واضحة بين عدد من التيارات الفكرية السياسية الرئيسية التي طالما رفعت جدراناً عالية فيما بينهما بالمخاصمة والمعاداة والمعاندة, تمت هذه المصالحات غير المعلنة احياناً بين هذه التيارات نفسها من جهة وبين بعض التيارات والخطاب الديمقراطي من جهة أخرى, وأصبح واضحاً اليوم أن الأغلبية العظمى من الماركسيين والإسلاميين والقوميين والليبراليين يتزاحمون على إثبات أولوية الخيار الديمقراطي على غيره في الإجابة على سؤال النهضة والإصلاح.
ما يدعو إلى التفاؤل التاريخي وليس الآني إن التيارات الفكرية التي تكون الفكر السياسي العربي أصبحت تعترف ببعضها البعض إلى حد لم نشهده طوال أعوام القرن الماضي، وهذا المؤشر يعد عتبة أساسية يعني تجاوزها القدرة على تجاوز عتبات أخرى، فالقبول بالتعددية الفكرية النظرية سيقود إلى القبول بالتعددية السياسية في الممارسة الواقعية، وهو الأمر الذي سيقود إلى القبول بالتعددية الاجتماعية والثقافية والاثنية، هذه العتبة الأولى على صعيد المضامين الفكرية لا تعني بأي شكل من الإشكال تخلي هذه التيارات عن برامجها المركزية، بل تعني قبول مشروعية التعايش والاعتراف بشرعية وجود الآخرين وحقهم في طرح رؤيتهم ومشاكلة الواقع السياسي والاجتماعي السائد، كما تؤسس هذه العقلانية الجديدة لإنتاج منظومة جديدة من القيم التي تحدد قواعد الاختلاف والصراع والاتفاق والتعايش.
من السمات الأخرى للعقلانية الجديدة التقاء التيارات الفكرية حول قناعة إن الديمقراطية هي الأداة الوحيدة التي ستتيح لها الفرصة إذا ما توفرت لكي تطرح برامجها على الواقع، وان الديمقراطية عملية تاريخية لا يمكن أن تتحقق بقرارات سيادية بين ليلة وضحاها، بل تحتاج إلى صيرورات سياسية واجتماعية وثقافية تحتاج إلى نضال ديمقراطي وبأدوات الديمقراطية ذاتها.
ومنذ سنوات قليلة باتت العقلانية الجديدة في الفكر السياسي العربي تقبل بكل احترام تعديلات واضحة في منظومات فكرية مؤسسة في المدارس الفكرية التي سادت في فترات واسعة خلال القرن الماضي، بما يقبل تكيفها مع الخطاب الديمقراطي ومنحه الأولوية كأداة سياسية وليس كمضمون سياسي، وانسحبت هذه التعديلات النقدية على إسلاميين بارزين وقوميين وماركسيين وغيرهم من الأسماء الهامة نذكر في هذا الشأن سمير أمين، وعصمت سيف الدولة وعادل حسين، واحمد صدقي الدجاني وسيد يسين وغيرهم.
لابد من الاعتراف بأن تيار المراجعة النقدية الذي اخذ طريقه منذ مطلع الثمانينيات في القرن الماضي قد عمل على الإسهام في انتقال الخطاب السياسي الفكري من فكرة الثورة إلى فكرة النضال الديمقراطي والإصلاح السياسي، وضمن تلك المرحلة يلاحظ بالتدريج خلو خطاب التيارات الفكرية المركزية من الدعوة إلى التغيير بالعنف، وفي الوقت الذي ظهرت فيه تيارات دينية لا تؤمن بالإصلاح دشنت حركة المراجعة النقدية خطاباً إسلامياً تنويرياً يمتلك أدواته الجديدة التي تلتقي مع التيارات الأخرى ولا تبتعد عن الفكرة الإصلاحية الديمقراطية التي تنهل من الحداثة السياسية السائدة في العالم المعاصر، ويلاحظ مع تراكم المراجعات النقدية في الفكر السياسي العربي بداية تمحور مباحث نظرية جديدة تدور حول تجديد الأسس النظرية للسياسة المدنية وكشف أسباب إعاقة الديمقراطية وأزمات التحول الديمقراطي وغيرها.
ولكن من سوء حظ هذه العقلانية الجديدة التي زرعت بذورها قبل أكثر من ربع قرن أن يصادف قطف ثمارها الفكرية، مع توالي طرح مبادرات الدعوة للإصلاح والديمقراطية من الخارج مما خلق صورة ذهنية تحاول أن ترسخها وسائل الإعلام اليوم تفترض التقاء الدعوة إلى بناء مجتمعات ديمقراطية معاصرة مع السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، وبذلك تجري محاولة اغتيال العقلانية الفكرية الجديدة في مهدها حيث عملت الأحداث والزلازل الكبرى التي تجتاح المنطقة على تحفيزها للظهور أكثر من الأجندات الأميركية التي أدخلت رموز هذه العقلانية في حالة فصام مع الذات.
خلال العقود القليلة الماضية تم اغتيال أو عزل اضاءات فكرية كادت تؤسس لخطاب التنوير الديمقراطي الجديد، إلا أنها لم تصل إلى الجماهير والرأي العام ولم يصغ لها الغرب أما اليوم فأمام الجماعات الفكرية التي تؤسس للعقلانية الجديدة فرصة تاريخية تمكنها من إدارة الهدم والبناء معاً ولا يتحقق ذلك دون تأصيل هذا الخطاب وتأهيل النقد الذاتي بالمراجعة العقلانية الجريئة وشرطها إدراك الصيرورة التاريخية للتحول الديمقراطي والابتعاد عن الاستعجال غير الناضج، وهذا يحتم الاشتغال على تفكيك بنية ذهنية تقليدية ممتدة من السلطة إلى الشارع ويعني الاشتباك مع الثقافة الشعبية على قدم المساواة مع ثقافة السلطة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد