في الوقت الذي تطرح فيه أسئلة أردنية حول ضمانات المشروع الاستشرافي للمستقبل الوطني الذي يصاغ في هذه الأثناء تحت عنوان "الأجندة الوطنية"، ومدى الزاميته للحكومات القادمة، ومستوى الشرعية التي سوف ينالها؛ في هذا الوقت تغيب أسئلة ربما أكثر أهمية حول الشرعية الموضوعية لمضامين الأجندة القادمة التي مازال يلفها الغموض، ومدى توفر الغطاء العلمي والمجتمعي لها؛ وأسئلة أخرى حول ماذا بعد الأجندة على مستوى الوحدات التنموية المتوسطة والصغرى، من مؤسسات وفعاليات؛ ومن ثم موقع هذه الأجندة مقارنة بأجندات الآخرين في المنطقة.
تقود فكرة الأجندة الوطنية مباشرة إلى موضوع الاستراتيجيات المستقبلية والفكر المرتبط بها، والذي عرفه العالم ويمارسه على مستوى الدول والمؤسسات والشركات. وإذا كان التفكير المستقبلي الاردني تأخر كثيراً، فان محاولة تحميل المبادرة الراهنة أكثر مما تحتمل، ووضعها في سياق الهلع السياسي المرتبط بمستقبل المنطقة وسيناريوهاتها القلقة، لا يخدم التفكير في المصالح الوطنية الأردنية والتخطيط لها، حتى في ضوء حالة الطوارئ المحيطة. وفي نفس الوقت، فالأمر يتطلب بإلحاح السؤال عن مدى الالتفات للاجندات والبرامج المستقبلية التي طرحت في المحيط الإقليمي، وتلك التي لاتزال قيد الإعداد، وما تحمله من مصادر تكامل وفرص، أو مصادر تهديد ومخاطر.
أهم ما تحتاجه الأجندة الوطنية في هذه المرحلة هو الوصول إلى اتفاق مجتمعي حولها. والشرعية المجتمعية هي الأساس الذي تبنى عليه الأطر الأخرى بالقبول أو الرفض. وقبل صدور هذه الأجندة، المتوقع في أيلول القادم، تتعاظم أهمية خلق مناخ صحي ومجال عام مدني وسياسي حول مبدأ الاستراتيجيات المستقبلية، وتتأكد سلامة هذا المناخ بمدى تسلحه بعمق مجتمعي، ينتقل من حوارات النخب الصغيرة والصالونات السياسية الضيقة إلى اهتمامات الناس، وانشغالات التنمية والفاعلين فيها، والى قيادات المستوى الثالث والرابع وصولاً إلى المنتجين.
المستوى الثاني الذي يتطلبه خلق المجال العام، والذي من المفترض أن تنضج فيه رؤى وخطط الأجندة الوطنية، هو الاستعداد المؤسسي لدى الأطر المؤسسية كافة، العامة والخاصة، لتبني توصيات الأجندة والعمل من خلالها. وهذه قضية في غاية الأهمية والخطورة، وكان من المفترض الاشتغال عليها منذ فترة مبكرة؛ إذ يخشى في هذا المجال ظهور فجوة يصعب ردمها بين ما يحتمل أن تقوم به المؤسسات مقابل امكاناتها الراهنة وتواضع قدراتها الفعلية، حينما يطلب منها تنفيذ برامج زمنية محددة. فالاستعداد المؤسسي للانغماس في الاستراتيجيات المستقبلية، كما تشير إلى ذلك تجارب دولية سبقت في هذا المجال (كوريا، سنغافورة،ماليزيا،...)، يتطلب برامج تأهيل للمؤسسات، تعنى بالانفتاح وتقبل الجديد وإعادة صياغة الأدوار وخلق التوافق والانسجام والتوازن وضمان الاستقلالية.
يقود هذا إلى القول إن طرح العناوين العامة للأجندة الوطنية يتطلب -اعتباراً من الربع الأخير من هذا العام- أن تبدأ المؤسسات الأردنية بالتفكير بصوت عالٍ باستراتيجياتها المستقبلية على مدى العقد القادم. وننتظر، على سبيل المثال، أن تخرج أمانة العاصمة بتصور مستقبلي لعمان بعد عشر سنوات، وان تطرح الجامعة الأردنية خطتها المستقبلية لعقد قادم أو أكثر، وهكذا في المؤسسات كافة وفي مختلف القطاعات، أي عدم الاكتفاء بالتخطيط القطاعي الذي طالما فشل في الوصول إلى المؤسسات الذي يضمها القطاع نفسه.
إن التغيرات الكبيرة في السياق العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي المفاجئ، واتساع وتيرة تأثيرات العولمة الاقتصادية والثقافية والسياسية، حفز بشكل كبير تصاعد منظور الاستراتيجيات المستقبلية، التي لم تعد قاصرة على الدول الكبرى التي الفت هذا النوع من التخطيط منذ عقود طويلة. أما الدول الجديدة التي استطاعت الصعود من خلال توفير رؤية مستقبلية متكاملة في اغلب الأوقات، فقد ارتبط الأمر لديها بتوفر منظور قيادي مبدع، وشرعية مجتمعية، مما أسهم في إعادة صياغة رؤيتها للحياة، وتجديد سياساتها بما يتفق وانشغالات العالم وأوضاعه المتغيرة، وذلك من خلال استشراف المستقبل وفق سيناريوهات متعددة.
ومن الأمثلة البارزة في مجال بناء الأجندات الوطنية الجديدة في ضوء التحولات العالمية، الأجندة الكورية التي صيغت لتشمل أهدافا بعيدة المدى مع إحداث تغيرات داخلية تمكنها من اخذ مكانة مناسبة بين الدول الأكثر تقدماً. وقد شكلت كوريا لهذه الغاية لجنة في العام 1995، برئاسة رئيس الوزراء وعضوية أكاديميين وناشطين، لوضع برامج وطنية في مجالات التعليم والتشريع والاقتصاد والسياسة والإعلام والإدارة المحلية والبيئة والثقافة. إلا إن نموذج الأجندة الكورية تعثر أكثر من مرة في تجسيد أهداف إعلان دولة الرفاهية جراء الأزمة الاقتصادية خلال عامي 1997/1998. وسبق ذلك الأجندة الماليزية، فيما يسمى بالخطة الماليزية السادسة، والمعروفة باسم "الطريق إلى الامام:رؤية 2020"، والتي بدأت على يد محاضير محمد منذ العام 1991، وقامت على ضرورتين: خلق إرادة العيش المشترك في إطار قومية ماليزية تنضوي تحت لوائها كل الجماعات، وضرورة بناء النموذج الماليزي للتنمية الرأسمالية. كذلك فعلت باكستان في العام 1998، حينما أطلقت رؤية "باكستان 2010"، التي قامت على أساس إعداد برنامج طويل المدى من النمو والتثبيت الهيكلي والمؤسسي، من اجل خلق اقتصاد ومجتمع جديدين بحلول العام 2010.
ما يهمنا الإشارة إليه في أجندات الآخرين هو ما خطط له أو ما يخطط له على المستوى الإقليمي المحيط بالأردن. وكما هو معروف، فان أية دولة معاصرة لا يمكن لها أن تقوم باستشراف مستقبلي، سواء من خلال أجهزتها الرسمية أو من خلال مراكزها البحثية، دون أن تأخذ بعين الاعتبار معطيات البيئة الإقليمية المحيطة ومحدداتها وتوقعاتها، علاوة على التوظيف الدقيق للمتغيرات العالمية.
وفي هذا المجال نتوقف عند نموذجين هما الأقرب للأردن على اختلافهما. فقد أطلقت إسرائيل برنامجها للاستشراف الاستراتيجي بإعداد مشروع مستقبلي بعنوان "إسرائيل 2020"، شارك فيه حوالي 600 أكاديمي وخبير إسرائيلي على مدار ست سنوات، ونشرت نتائجه في 18 مجلداً باللغة العبرية. ويشتمل البرنامج الإسرائيلي للمستقبل جميع جوانب الحياة، السياسة والاقتصاد وبنية المجتمع والهوية، مركزا على الأرض والاستيطان والمصادر البشرية والطبيعية. ويقوم هذا البرنامج في اغلبه على افتراض سيناريو سلام عربي-إسرائيلي قادم، مما يجعله أكثر التصاقاً بربط التخطيط لمستقبل إسرائيل بالمحيط العربي القريب منها. وقد قام مركز دراسات الوحدة العربية مؤخراً بترجمة ونشر أهم ما جاء في هذا البرنامج في ستة مجلدات. وهنا يطرح السؤال: هل اطلعت النخب الأردنية على الأجندة الإسرائيلية، وهل نالت حقها من النقاش والتفكير؟
البرنامج المستقبلي الآخر القريب من الأردن هو الرؤية المصرية التي يتم إعدادها حالياً، تحت عنوان "مصر 2020"، من قبل معهد العالم الثالث بالتنسيق مع مركز دعم اتخاذ القرار في رئاسة الوزراء ومعهد التخطيط القومي. ويشتمل البرنامج على سيناريوهات شاملة، تتناول مختلف أوجه الحياة، من مستقبل زراعة القطن وأسواقه إلى آليات ضمان مقعد دائم لمصر يمثل إفريقيا في مجلس الأمن.
توجد مستويات متعددة للاستشراف المستقبلي، بعضها برامج وأجندات تتبناها الدول والحكومات، وبعضها تصورات تضعها مراكز دراسات وبحوث وتستفيد منها الحكومات والمؤسسات. وفي الحالتين، لا يمكن أن يغيب دور البحث العلمي والطابع المؤسسي، مما يدعو إلى ضرورة ربط متابعة الأجندة الوطنية بمؤسسة علمية مستقلة تنشأ لهذه الغاية، وتتمتع بدعم سياسي كبير.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد