هل تحمل أحداث غزة الأخيرة وما انطوت عليه من احتقانات سياسية، تحولت إلى مصادمات بين حماس والسلطة الفلسطينية، مؤشرات جديدة تدل على تحولات قادمة يمهد لها في بنية السلطة الفلسطينية، مع بدء استحقاقات الانسحاب الإسرائيلي من غزة؛ وفي ضـوء حراك سياسي واسع ومكثف بين عواصم صنع القرار الدولي؟
الهدف المعلن لزيارة وزيرة الخارجية الأميركية الحالية لإسرائيل والأراضي الفلسطينية هو إنقاذ التهدئة، وبحث خطة الانفصال. ولا ندري طبيعة ما تحمله رايس من تصورات وأفكار بشأن الفلسطينيين في المرحلة الجديدة، التي سيكـون عنوانها "دولة غزة"، وما هو حجم التعديلات المطلوبة في بنية السلطة الفلسطينية والقوى الفاعلة في محيطها.
وقبل ثلاثة أسابيع، حط رئيس الوزراء البريطاني فجأة في الرياض في زيارة سريعة، قيل انها تحمل جملة من الأفكار حول ملف التسوية بهدف طرحها على قمـة الثماني الكبار. وفي الوقت الذي انعكس فيه إدراك التحولات القادمة في المنطقة بحراك سياسي ودبلوماسية مكوكية، فقد صدمت بعملية ناتانيا الأخيرة، وما تبعها من تصعيد. ويوفر هذا المناخ احد المداخل الأساسية لفهمها.
الإدراك الغربي لقرب اكتمال الانسحاب الإسرائيلي من غزة، الذي يعبر عنه بهذا الحراك السياسي، يقابل بإدراك فلسطيني يعبر عنه بالاقتتال، في حين يصعد الإسرائيليون على المستوى المدني، حالة الرفض لخطة الانسحاب، مما يعقد المشهد وسط تفاعلات فلسطينية لا ترتقي الى الحد الأدنى المطلوب.
وفي أجواء التوتر وانسداد الأفق السياسي، تُختصر القضية الفلسطينية وكأنها في الفصل النهائي الذي تحسمه الحلقـة المفرغة في غزة. ويخيل للعقل السياسي الفلسطيني احياناً أن ما يبعده عن الدولة الفلسطينية الموعودة ليس اكثر من غبار صواريخ القسام، وان شارون يترقب توقفها ليقدم خرائط الدولة ووثائقها بطيب خاطر! وكل ما يحملـه هذا المشهد من تبسيط وتعقيد يدخل الحلقة المفرغة في غزة في معادلة صفرية بين حماس والسلطـة، يعتقد كل طرف فيها ان أي خسـارة هي مكسب للطرف الآخر وبالعكس!
منابع الحساسية السياسية التي تنقل العنف الفلسطيني نحو الداخل تفهم في ضوء القراءات الجديدة للقوى الدولية التي تملك مفاتيح الحل في الملف الفلسطيني، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا تحديدا، وأهم الوقائع ان حماس، إذا لم تكن القوة الثانية بعد فتح، فهي قوة موازية لها أو تفوقها، من خلال ما تمثله من قدرة مادية تشتبك مع تفاصيل حياة الفلسطينيين عبر شبكة من الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية، إلى جانب الثقل السياسي والشعبي الواضح الذي يضعها في خط المنافسة الحقيقي، كما أظهرت الانتخابات البلدية الأخيرة بحصول الحركة على الأغلبية في 38 مجلساً بلدياً وقروياً، منها 34 مجلساً بلدياً من أصـل 68 شاركت في انتخاباتها في الضفـة، واربعة مجالس في غزة من أصل ثمانية مجالس. وهي بالتالي قوة عسكرية ذات ثقل استراتيجي، تتغلغل بعيداً في العمق الشعبي الفلسطيني، وأحرزت قوة إضافية جديدة حينما دخلت في تفاصيل اللعبة السياسية واستطاعت، ولو بمسافات متواضعة، التكيف بحذر مع منطق المشهد الدولي الراهن، بما يخدم استحقاقات القضية الفلسطينية بالقبول بدولة وفق ما يعرف بالشرعية الدولية، والقبول بالمشاركة في منظمة التحرير الفلسطينية.
وفق هذا التصور، دخلت حماس وحركات المقاومة الأخرى طريق التهدئة، لاتاحة المجال امام إزاحة سياسية جديدة في ملف التسوية. وفي الشهور الأخيرة، التي وفرت جرعات شعبية جديدة لحماس وبالتحديد بعد رحيل الرئيس عرفات، اخذ منحى التكيف ابعادا أخرى، لعل احد مفاصله الأساسية الحوار مع الأوروبيين، ومن خلفهم الأميركيون، والذي دخلته حماس وهي تنظر بعين إلى رصيدها من قتلى انتفاضة الأقصى في صفوف الإسرائيليين، الذي وصل إلى 456 قتيلاً من اصل 1001 قتيل، أي بنسبة 46% حسب الأرقام الإسرائيلية، وتنظر بعين أخرى إلى سيناريوهات مفتوحة على مستقبل مشاركتها في الحياة السياسيـة الفلسطينية، وفي البال مشهد مشاركة حزب الله في الانتخابات اللبنانية الأخيرة.
كان من الواضح تماماً قبل عملية ناتانيا ان الحركات الإسلامية التي دخلت في سياق التهدئة بعد اتفاق القاهرة قد نجحت إلى حد ما في اختبار قدرتها على الامساك بزمام الداخل الفلسطيني في اكثر حالته حساسية؛ بمعنى آخر انها قادرة على فرض كلمتها على الواقع الفلسطيني الذي يعاني من سيولة عالية، لم تتمكن أسلحة السلطة وأجهزتها منه. وفي الوقت الذي تعاني فيه فتح من ازدياد غربتها عن العمق الفلسطيني، وسط انقسامات داخلية وانتشار الفساد في مؤسساتها وأجهزتها، وصراعات عارمة بين الأجيال، كانت احداث الاقتتال الداخلي الأخيرة المؤشر الواضح لبداية مرحلة جديدة، باتت الطبقة السياسية الفلسطينية التقليدية تستشعرها عن بُعد. وانعكس كل ذلك الاختناق السياسي في الاستفزاز المسلح الذي عبرت عنه نيران صديقة موجهة نحو الداخل هذه المرة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد