مع ظهور نتائج امتحانات الثانوية العامة، يدخل المجتمع الأردني كل عام حالـة طوارئ، يبدو في ملامحها القلق والانتظار بحثاً عن فرصـة للقبول الجامعي، وسط ثقافـة محليـة حولت التعليم الجامعي من أداة للتغيير الاجتماعي والاقتصادي إلى وسيلـة وحيدة للصعود في السلم الاجتماعي، واغلقت أي منافذ أخرى لتحقيق الذات من دونها.
وفي أجواء ازدحام استراتيجيات وخطط وبرامج الإصلاح، والنوايا المعقودة على احداث تغييرات جذريـة في التعليم العالي والتعليم العام، مازالت الصورة الذهنيـة في وعي المجتمع الأردني حول مصير الأبناء، الذي لن يتحقق إلا بدخـول الجامعـة، مغلقـة ومعلقـة ببريق اسوار الجامعـة، ولم ينلها أي تعديل ثقافي يذكر، في الوقت الذي لم نشهد تغيرات واضحـة في بيئـة العمل والإنتاج، وفي الخطاب الإعلامي، تمهد الأرض لاحداث تغييرات حقيقيـة، وتفتح الطريق امام ثقافـة تنمويـة تجذب أجيالا من الشباب للانخراط في ميادين التدريب والعمل التقني والمهني، وتأتي بأجيال من الفنيين ومنتجي التنميـة المهرة، بعيداً عن صيغ التدريب المهني التقليدي، وكليات المجتمع التي ثبت عدم نجاحها، في حين كانت أجيال الفنيين والتقنيين والعمال المهرة هم الذين صاغوا مشاريع اقتصاديـة عملاقـة في جهات متعددة من العالم.
في الحقيقـة، ان أفواج الخريجين من التعليم العام الذين يتكدسون كل سنة على أبواب الجامعات، أو أولئك الذين يتم إضافتهم إلى طوابير العاطلين عن العمل، يشكلون الحلقـة المفرغـة في التنميـة الوطنيـة، التي تتطلب في هذا الوقت فتح ملف نوعيـة التعليم بقـوة، ومدى مواءمته لسوق العمل وحاجاتها. في كل عام يزداد الطلب على التعليم العالي؛ وفي السنوات القليلـة الماضيـة، فتح الطلب المتزايد شهيـة الجامعات الحكوميـة على التنافس على قبول اكبر قدر ممكن من الطلبة في ضوء أزمة أوضاعها الاقتصاديـة، مما خلق حالـة قلق حقيقي حول نوعيـة التعليم العالي الأردني، والطريق التي يسير فيه، على الرغم مما يتمتع به من سمعـة وقدرة تنافسيـة إقليمية عاليـة، بنيت على إنجازات حقيقيـة.
تحاول الجامعات الأردنيـة الحكوميـة قبول عدد من الطلبة اكبر من طاقاتها الاستيعابيـة، وقد يصل الأمر إلى الضعف في بعض الجامعات؛ رضوخاً للضغوط الاجتماعيـة التي تأخذ أحياناً شكل المطالب السياسيـة من جهـة، ورغبـة في سد ندرة الموارد وتخفيف ضائقـة التمويل التي تعاني منها معظم الجامعات من جهـة أخـرى. يتم هذا على حساب نوعيـة التعليم العالي ومخرجاته، والتي هي بدورها مدخلات التنميـة، في الوقت الذي يتضخم فيه التنظير حول جودة التعليم داخل أروقة الجامعات، وتنشأ لهذه الغايـة الدوائر والمراكز التي تنشغل باعداد الخطط والبرامج، لكنها تصدم مع بداية كل عام دراسي بسياسيات القبول، التي تنعكس على مختلف فعاليات الجامعة ومدخلاتها الأكاديمية.
ثمـة تضخم هائل في الكليات الإنسانية والاجتماعية باعداد كبيرة من الطلبة غير المؤهلين للقبول في الجامعات أصلا، وهو ما اثر سلباً -وعبر أجيال من الخريجين- على نوعيـة الموارد البشريـة في هذه المجالات، والمعنيـة في نهايـة الأمر بتكوين ملامح الحياة العامـة، مقابل ضمور واضح في الكليات العلميـة وتخصصات التطبيقات التكنولوجيـة. وثمـة تخصصات وبرامج تنشأ في بعض الجامعات رغم عدم وجود أساتذة متخصصين فيها في هذه الجامعة المعنية، اللهم رغبـة في فتح نافذة لزيادة اعداد المقبولين. كذلك، ثمـة تزايد واضح في اعداد الطلبـة لكل عضو هيئـة تدريس (التناسب)، ما ينسحب على اعداد الطلبـة في كل قاعـة صفيـة. وهناك تضخم غير معقول في العبء الدراسي لعضو هيئـة التدريس، ابعده عن مهام أخرى لا تقل أهميـة عن التعليم، وعلى رأسها البحث العلمي والتطوير. وثمـة خطط يتم الحديث عنها من فوق منابر الجامعات، ومنذ سنوات، عن التحول إلى التعليم الإلكتروني، لكن هذه الخطط لا وجود حقيقيا لها على ارض الواقع في ضوء ازدياد اعداد الطلبـة وتواضع التمويل.
من جهـة أخرى، ولفترة ما، بقيت العلاقـة بين الجامعات ووزارة التربيـة والتعليم غير واضحـة، ما جعل الجامعات مختبراً لتطبيقات وزارة التربيـة والتعليم، وبالتحديد في سياسات القبول وفتح التخصصات. والدليل على ذلك موجـة التخصصات التربويـة التي تطلبها الوازرة، ثم ما تلبث بعد سنوات قليلة أن تطلب إلى الجامعات التوقف عن القبول في هذه التخصصات. فبعد سلسلـة تخصصات "معلم المجال" و"معلم الصف"، تم مؤخراً إغلاق تخصص "الحاسوب التعليمي". ولعل تجربـة هذه الحكومـة، بتكليف وزير واحد معروف بكفاءته بحقيبتي التربية والتعليم العالي، تأتي بنتائج إيجابية.
وتنسحب هذه العلاقـة، أي عدم وجود رؤيـة وطنيـة مشتركـة وتنسيق عملي بين الجهات المعنيـة ببناء الموارد البشرية، والتي تعنيها سياسات القبول ونوعيـة التعليم، تنسحب على الجامعات ووزارة التخطيط ووزارة العمل وديوان الخدمـة المدنيـة، إلى جانب الجهات الخاصة والقطاعات الأهليـة، كالنقابات وغرف التجارة والصناعـة.
لابد من الاعتراف بأن اختيار الطلبـة وقبولهم في مؤسسات التعليم العالي يعد الخطوة الأولى والأساسية في تحديد نوعيـة التعليم وجودتـه، ولابد من الإدراك بأن مستقبل التنميـة الوطنيـة في هذه المرحلـة مرتبط بشكل وثيق بنوعيـة التعليم قبل أي شيء.
في العام الماضي، نشر الكاتب الأميركي المعروف توماس فريدمان مقالـة بعنوان: "الهنود قادمون"، يحذر فيها الغرب من أن الجيل الجديد من الشباب الهندي الذين طبقت عليهم خطط إصلاح التعليم بدأوا يدخلون أسواق العمـل، معتبراً ذلك قـوة وطاقـة كبرى ستجعل الهند دولـة منافسـة من الدرجـة الأولـى في العالم الجديد.
إصلاح التعليم في الأردن بدأ يشق طريقـه بقـوة إلى المدارس، لكن السؤال المهم: هل اهتدى طريقـه إلى بوابات الجامعات؟
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد