قبل فوزه في انتخابات أيار الماضي، وفي أجواء الحملات الانتخابية المتبادلة، كان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير يدرك ان نفق السياسات الأميركية في الشرق الأوسط لا نهاية له. وبعد ذلك الفوز، يبدو ان الإحساس بثقل ملف الشرق الأوسط على صدر الشارع البريطاني يزداد يوماً بعد يوم، بعد ان اكتشف الإنجليز حجم التضليل الذي انسحب عليهم حينما أخذوا الوعد الأميركي لبلير أبان الحرب الأميركية على العراق على محمل الجد، وهو الوعد الذي قيل انه تضمن التزاماً أميركياً لبريطانيا بتحريك العملية السياسية بجدية وقوة في الشرق الأوسط للخروج بتسوية شاملة للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني إذا ما دخلت بريطانيا بقوة في حملة احتلال العراق.
وفي وسط فوضى العراق الراهنة، وتعقد أزمة الولايات المتحدة فيها، والتي أوصلت النار الى قلب لندن، مقابل حالة الانجماد السياسي الذي يلف الشرق الأوسط هذا الصيف، باستثناء حراك شارون الانفرادي، ازدادت الأصوات التي تنتظر خطوة سياسية كبرى قادمة من لندن، لن تكون في الملف العراقي بالتأكيد، بل على صعيد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، بانتظار وعد جديد يطلقه بلير بعد (88) عاماً على الوعد الذي اطلقته بلاده مطلع القرن الماضي، وفتح فوهة النار التي لن تتوقف إلا بوعد جديد قابل لرؤية النور مباشرة وعلى ارض الصراع التاريخي ذاتها، مع الفروق الهائلة في نواميس العدالة وشرعية الوعد بين الحالتين.
دون شك، يتمتع توني بلير بخصال القادة الإنجليز التاريخيين؛ إذ لديه من حكمة الإنجليز ودبلوماسية اللحظات التاريخية الفاصلة ما يكفي. وعادة ما يحرص على ان يُظهر التزامه الأخلاقي، وان يبدو بقيم حامل الرسالة. وفي هذه الأثناء، تلتقي أمام رئيس الوزراء البريطاني الظروف المواتية لإحداث تغيير تاريخي في رتابة دورة الحياة السياسية التقليدية في الشرق الأوسط؛ فأمامه ستة شهور في رئاسة الاتحاد الأوروبي، في خضم أسوأ أزمة تواجه القادة الأوروبيين بعد الرفض الفرنسي والهولندي لدستور الاتحاد الأوروبي، وتشكيك الكثيرين من الأوروبيين في قناعة القادة الإنجليز بأوروبا الموحدة القوية، التي تملك القدرة على تحريك العالم بدل ان تبقى تتلقى النتائج في كل مرة.
فالزعيم الذي يجلس على الكرسي الساخن في أوروبا يحتاج الى مبادرات كبرى في مناطق الصراع والتنافس الكبرى؛ أولها وأهمها الشرق الأوسط. وتزداد فرصه وهو القائد الحالي لمجموعة الثماني، إذ لن يبقى مشغولاً بارتفاع درجة حرارة الأرض والحرائق تصل الى شوارع لندن بفعل السياسات الأميركية، ولن يبقى ينتظر انفراج أزمة المحافظين الجدد في واشنطن التي تزداد تعقيداً وتشابكاً، وآخر ما يلفت انتباههم مصالح حليفهم التقليدي.
تلتقي هذه الظروف في لحظة يبحث عنها الزعيم البريطاني، الذي يحدوه طموح واضح لاعادة روح القادة الإنجليز الكبار (تشيرتشل، ونيل كونيك، وجون سميث) واقتفاء آثارهم، والبحث عن مكان متقدم للمملكة المتحدة العظمى، التي يعتقد الكثيرون بأنها شاخت واستسلمت لاسترخاء تاريخي في مرحلة إعادة بناء العالم الجديد وازدياد سقف توقعات القوى الجديدة المنتظرة، واحتدام الصراع على مقود أوروبا وهي في طريقها إلى التوحد.
تغيير علاقات إسرائيل بالغرب لن يبدأ إلا بزحزحة جذور تلك العلاقات وإعادة تفكيكها؛ فقد قامت تلك العلاقات على نمط المصالح والعواطف، ونمت وتعاظمت على هذا النمط الذي يعاد إنتاجه في كل مرة؛ وهو ما يتطلب رؤية أخرى لتغيير قواعد اللعبة التاريخية ذاتها، وأحد مداخل هذا التغيير في التأثير في نمط علاقات المصالح داخل الغرب ذاته.
ومع دخول التسوية السياسية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي عامها الخامس عشر، وهي بالمناسبة ربما تكون أطول عملية تفاوض سياسي شهده التاريخ، بات -وفق المحددات التي تلوح في الأفق- ضروريا الخروج من مدار مدريد التاريخي والدخول في مدار جديد، والذي يعني عربيا في أضعف الإيمان الاستفادة من دروس السنوات الماضية، وأهمها الإقلاع عن الرهان على تحولات تحدث داخل إسرائيل ذاتها على صعيدي الدولة والمجتمع. ولأن كل التجارب والخبرات أنتجت خبرة أن العرب غالباً لا يتعلمون من الماضي، فان احتمالات التغيير يبدو مصدرها نمط العلاقات الدولية، والتي ستنال في بعض جوانبها إعادة إنتاج علاقات إسرائيل مع الغرب لمصلحة استمرار واستقرار إسرائيل، بمعنى ترويض إسرائيل للدخول في تهدئة تاريخية وحاسمة مع الداخل والمحيط.
ولعل الفرصة الأكثر وضوحاً في إحداث هزة في نمط العلاقات بين إسرائيل والغرب متاحة اليوم أمام بريطانيا، وفي عهد بلير الذي يُنتظر منه الوعد البريطاني الجديد على شكل التزام سياسي وأخلاقي للفلسطينيين هذه المرة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد