بعد حين، ربما سيؤرخ لسنوات العقد الأول من القرن الواحد والعشرين الراهنة بأنها حملت، فيما حملت من تحولات ومتغيرات، أكبر تناقض في مصادر الشرعية في الحياة السياسية العربية. ففي الوقت الذي تتآكل فيه أنماط الشرعية السياسية للنظم الحاكمة، والمستندة إلى تراث من هيبة القوة التي اهترأت على مدى عقود خلت من التجريب والترقيع، يبدو أننا أمام تحولات جذرية في مفهوم الشرعية السياسية ومصادرها، مستندة إلى موجة من العقلانية الجديدة، لم يستتب الأمر لها بعد في مجتمعات تتغير هياكلها الاجتماعية والاقتصادية بفعل عوامل داخلية وخارجية متداخلة.
كان الحديث الدائر في أوساط النخب العربية يتناول أزمة الشرعية باعتبارها أحد أشكال التعبير عن الأزمة الثقافية الكبرى التي تعصف بالمجتمعات العربية. وكان المسار المأمول ينحو باتجاه الإحلال البطيء لما يسمى في التراث الديمقراطي بـ"الشرعية العقلانية القانونية" مكان الشرعية التقليدية التي أفرغت من كل مضامينها وتآكلت تماما مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي، نتيجة الاحتلالات والاقتتال الداخلي والخارجي، وانهيار ما تبقى من نظرية الأمن القومي العربي، والفشل المتوالي لمشاريع التنمية الوطنية.
إلا أن تحولات التسعينيات وما تبعها حوّل مشهد الأزمة الثقافية إلى صراع حاد على إرث شرعية في طريقها إلى الانحلال والزوال؛ أي الشرعية السياسية الراهنة للكثير من النظم السياسية العربية والإسلامية، وهي في اغلب الحالات شرعية "تلفيقية" تم ترميمها وإعادة صيانتها مرات عديدة أمام ضربات موجعة تلقتها من الداخل والخارج، وقد امتدت عمليات الترميم والترقيع من إتاحة هوامش ضيقة أمام التعددية، إلى فتح نوافذ لحريات وفئات منتقاة، صاحب ذلك تجديد شباب الدولة التسلطية.
بات واضحا لدى أطراف عديدة أن الشرعية الراهنة في طريقها إلى زوال. ومع ازدياد حدة عصف الأزمة الثقافية، تنطوي هذه الفترة التاريخية على واحدة من أشد لحظات الاستقطاب في الصراع بين شرعيتين؛ أولاهما الشرعية العقلانية القانونية، التي أسست لها العقلانية الجديدة في الخطاب الفكري العربي منذ مطلع الثمانينيات، وحملها التيار النقدي في الفكر السياسي العربي والإسلامي. وما مقولات الإصلاح السياسي والثقافي الراهنة إلا إحدى ثمار ما زُرع قبل أكثر من عقدين ونصف، على الرغم مما قد تبدو عليه في هذا الوقت من أنها بضاعة وافدة من الخارج.
الطرف الثاني، أو الشرعية الثانية، في الصراع، فتمثله عودة الشرعية التقليدية التي تمثلها بعض تيارات الإسلام السياسي المعاصر، والتي تجمع بين التقاليد الدينية التي لا تقبل إلا تفسيرها الأحادي للتاريخ والمجتمع والآخرين، وبين الزعامة الملهمة او الكاريزما كما اسماها لأول مرة "ماكس فيبر". في السنوات الأخيرة استطاعت هذه التيارات أن تجمع بين هذين المصدرين في سعيها لتدشين الطريق امام عودة الشرعية التقليدية، يتمثل ذلك في مضمون التقاليد الدينية بالاستناد إلى شرعية عودة الخلافة الإسلامية، ولعل من الطريف أن إحد السيناريوهات المستقبلية للشرق الأوسط التي وضعها أحد الاجهزة الأمنية الأميركية العام الماضي يستند إلى التعامل مع دولة الخلافة الإسلامية التي سينجح الإسلام السياسي في الوصول إليها خلال عقدين قادمين، وعلى الرغم من أن الشرعية السياسية التقليدية المستندة إلى تراث الخلافة قد حكمت العالم الإسلامي أكثر من 12 قرنا كان الوصول إلى السلطة فيها قائما في معظم الفترات على القوة إلا أن الوصول الى الناس والمحكومين وتأمين الولاء والطاعة كان دائما يحتاج إلى أكثر من القوة؛ وهي الشرعية المستندة إلى الرابطة الدينية والقدرة على تفسيرها في كل مرة مما يحيل المشهد برمته إلى ما سوف تؤول إليه الأزمة الثقافية الراهنة.
أما المصدر الثاني للشرعية التقليدية التي يعاد صياغتها في هذا الوقت يبدو في نمط القيادة الجديد من زعماء الحركات الجهادية او النشطاء الذين لم يرثوا السلطة او الجاه، بل اكتسبوا مكانتهم من قوة تنظيماتهم ومن التضحيات التي يقدمونها؛ تجدهم تارة مقاتلين قادمين من العصور الوسطى تغلفهم مسحة من الحزن والكبرياء, وتجدهم تارة أخرى تركوا الثراء وعوالم البذخ والنعم والتحقوا بفئات مهمشة لا تملك شيئا تضحي به.
هل نصحو صباح يوم وقد نادت الجماعات الإسلامية القريبة من القاعدة بزعيمها اسامة بن لادن خليفة للمسلمين وهو تصعيد قابل للتعامل معه في سياق التصعيد المتوالي لأزمة الشرعية.
إن ما تقوم به اليوم بعض النظم العربية والإسلامية من إجراءات تشكل بعض أنماط الدفاع الذاتي أمام صراع الشرعيات الحاد يذكر بإصلاحات الدولة العثمانية في آخر أيامها حينما بدأت تشعر ببداية تحلل شرعيتها. لذا، نلاحظ اليوم على ارض الواقع ما كان يردده سعد الدين ابراهيم منذ أكثر من عقدين بعد ما عجزت المجتمعات العربية عن ملء فراغ الشرعية الأيديولوجية الثورية بعد هزيمتها وتركت المجال أمام النظم السياسية للاحتماء بالشرعية الملفقة واهم ملامحها التي يعاد اليوم إنتاجها كآخر دفاعات أمام الشرعية المتهاوية يبدو في إعادة ترميم الدولة التسلطية وإثارة مخاوف الناس من أي منافسين على السلطة وتضخيم الإنجازات الوهمية وبيع الأحلام الوردية وافتعال الأزمات الخارجية والاحتماء بقوى خارجية.
إن أي تحليل لمستقبل أزمة الشرعية في العالمين العربي والإسلامي لا يأخذ بعين الاعتبار مسارات الأزمة الثقافية الكبرى التي تحياها هذه المجتمعات سيدخل في دائرة التنجيم أكثر من الرصد والاستشراف التاريخي والاجتماعي، مما ينقل مستقبل هذه الأزمة من البحث في الحقل السياسي إلى الحقل الاجتماعي الثقافي، ومما يتطلب بالتالي إعادة اكتشاف الشرعية السياسية وتعريفها من جديد بعيدا عما تعودنا على ترديده من الولاء للحاكم او النخبة الحاكمة الى الولاء للدولة والطاعة للقوانين والتأييد للأهداف والقيم الكبرى، إن مصادر الشرعية تتجدد وهي حالة سياسية تعكس الموقف الاجتماعي والثقافي، وما قضية الديمقراطية والمشاركة السياسية وتداول السلطة إلا أحد تعبيرات أزمة الشرعية وليست الأزمة بأكملها, بل هي اكبر من كل ذلك وقد تصل على حد تعبير برهان غليون قبل أكثر من عشرين سنة إلى حد تدمير الأسس المعنوية والمادية المنتجة للجماعة كجماعة؛ مما يجعل الجماعة والوجود المادي للأفراد والدولة التي تمثل إطارهم السياسي في مهب الريح، أليس ما يحدث في العراق اليوم المثال الراسخ لأزمة الشرعية التي وصلت إلى هذا الحد.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد