في جلسة عصف ذهني مع الأستاذ أمين هويدي، شيخ الاستراتيجيين العرب وأحد اكبر قادة حرب الاستنزاف التي تعد أكثر لحظات العطاء العسكري والسياسي في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، كانت مفاجأة الحديث الذي دار في منزله قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر بشهور قليلة، قدرة هذا الخبير الاستراتيجي على تقديم خلاصة تجربته بالإصرار على أن معارك الاستراتيجية المعاصرة تنحصر في الكلمات والطلقات، وان الكلمات تسبق الطلقات في الأولوية والأهمية، وعلى أساسها تتحدد قوة الطلقات واتجاهاتها، في حين أن العرب خسروا معظم معاركهم المعاصرة، التي قدموا في بعضها تضحيات كبيرة، ليس بسبب القوة المادية فحسب، بل نتيجة عدم قدرتهم على مخاطبة الآخرين؛ فالجنديـة العربيـة، على الرغم مما لحق بها من هزائم، لم تخذل العرب مثلما خذلتهم كلماتهم.
وبالفعل، كانت معركة الكلمات هي الوجه البارز والأكثر وضوحا في الصراع بعد أحداث أيلول 2001 رغم فائض القوة المتبادل. لنأخذ على سبيل المثال قدرة التنظيمات الإسلامية الأصولية على استثمار وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال عبر شبكة الإنترنت لإثارة مشاعر الخوف والرعب وسط هيمنة إعلامية غربية شبه مطلقة، ومن ثم اعادة إنتاج حالة ذهنية ونفسية في أوساط المجتمعات الغربية تجاوزت الصور النمطيـة الذهنية المشوهة المتبادلة، ودشنت هذا الاصطفاف التاريخي الذي لم يسبق له مثيل منذ قرون طويلة والذي نقرأ ابرز ملامحـه، رغم تناقضات السياسة اليومية، في العنوان الرئيس لصحيفة لوموند الفرنسية صبيحة أحداث سبتمبر: "كلنا أميركيون"، في مقابل عجز رسمي عربي عن مخاطبة الآخر الغربي باللغة التي يفهمها، وهو عجز يطول الحديث بشأنه، وفيه تبدو تفاصيل وملامح عديدة من مأساة القضية الفلسطينية.
وفي أجواء احتدام الصراع خلال السنوات الأربع الماضية بين الكلمات والطلقات، كانت المحصلـة كما هو معروف أن لم تصب طلقات العرب أهدافها الحقيقية، كما لم تُسمع كلماتهم! وفي الوقت الدي ضخ فيه العرب حوالي ستة مليارات دولار لإنشاء المحطات الفضائية خلال اثنتي عشرة سنة، مازال الفشل يلاحق طموحا عربيا بإنشاء محطة فضائية تخاطب الغرب بلغة يفهمها، وتتوفر لها إمكانات بشرية وتقنية بحجم انشغالات العصر، وبحجم حدة الصراع، وبحجم فجوة الفهم والجهل الذي يحيا فيه الغرب حيال العرب والمسلمين وقضاياهم. فقد تضاعفت عوائد النفط العربي خلال السنوات الأربع الماضية عدة مرات، وبما فاق مجموع إيراداته على مدى أكثر من ربع قرن، ومع ذلك لم توفر تلك المليارات الطائلة إرادة سياسية للاستثمار في مخاطبة العالم بلغة جديدة منذ 11 سبتمبر حينما كان سعر برميل النفط لا يتجاوز عشرين دولارا.
في العام 2002، أعلن أمين عام الجامعة العربية عن خطة لاطلاق محطة فضائية عربية تخاطب الغرب باللغة الإنجليزية وذلك خلال عامين، لتسهم في تصحيح التصورات الخاطئة عن الإنسان والمجتمعات العربية، وفي نفس العام، اتخذ وزراء الإعلام العرب قرارا بإنفاق نحو ثلاثة وعشرين مليون دولار أميركي لتمويل حملة إعلامية لمواجهة الحملات الإعلامية الغربية التي احتدت في ترويج صورة الإرهاب العربي، وتضمَّن القرار إنشاء مرصد إعلامي في أوروبا او الولايات المتحدة لطرح القضية الفلسطينية، والتركيز على كشف وإدانة عمليات التدمير المستمرة للتراث الفلسطيني من قبل الاحتلال الإسرائيلي. وتوالت الأخبار عن مشاريع إعلامية عربية موجهة إلى المجتمعات الغربية لم نر معظمها على ارض الواقع، منها وكالة أنباء عربية. كما أعلن مجلس التعاون لدول الخليج العربية عن خطة لاطلاق قنوات فضائية ناطقة باللغات الإنجليزية والإسبانية والفرنسية. ومع أن جميع المشاريع الإعلامية العربية المشتركة التي أعلن عنها خلال السنوات الأربع الماضية لم تتحقق، يبقى الرهان على المشاريع التي تتبناها دول او مؤسسات منفردة، مثل فضائية " تلفزيون العرب" التي أطلقتها السعودية، ومشروع قناة الجزيرة باللغة الإنجليزية وغيرها.
على الجانب الآخر، ساد اعتقاد في أوساط خبراء الإعلام العرب بان الأجدى في إدارة معركة الكلمات هو أن تتم باختراق مؤسسات إعلامية غربية قائمة ولها سمعتها وجمهورها، من خلال ما يتوفر للعرب من موارد مالية تسمح بالاستثمار في هذه المؤسسات او بتصعيد أصوات موالية للقضايا العربية، وقد تمت أكثر من محاولة في هذا الاتجاه، بيد أن جميعها باءت بالفشل، الأمر الذي يذكرنا بقيام رأس مال سعودي بشراء اسهم في وكالة الأنباء الأميركية الضخمة "يونايتد برس" في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي عندما شارفت على الإفلاس، ثم بيعت الوكالة مرة أخرى، وكذلك المحاولات غير الناجحة لشراء اسهم في صحيفة نيويورك تايمز.
وعلى كل الأحوال، يبدو أن الأزمة التاريخية في العجز عن مخاطبة الآخر الغربي لا تتوقف عند الفشل المؤسسي الرسمي العربي، بل تتعداه إلى عمق الأزمة الثقافية العربية وتواضع مستوى الإدراك لدى النخب ومؤسسات المجتمع المدني والأفراد المتنفذيـن لأهمية هذه القضية، رغم أن الكثير من المثقفين والكتاب العرب لم ينفكوا عن الإشارة إلى هذه الأزمة منذ أكثر من أربعة عقود مضت. إذ تنقل "هنادي سليمان" في مقالة نشرتها في صحيفتي السفير اللبنانية والقبس الكويتيـة عن ديبلوماسي عربي سابق لدى الأمم المتحدة في نيويورك انه قرر خلال مأدبة قبل أعوام، وجمعت السفراء العرب لدى المنظمة الدولية، أن يطرح عليهم سؤالا: "بما أنكم الآن مجتمعون هنا، وأحدثكم عهدا بنيويورك عين قبل سنتين، فأريد أن أسألكم: من يعرف اسم رئيس تحرير صحيفة نيويورك تايمز؟" ساد القاعة صمت مطبق.
ويشير ادموند غريب في كتاب نشره في أعقاب حرب الخليج الثانية العام 1991 إلى استطلاع أجراه من خلال سؤال مجموعة من كبار المذيعين والمذيعات والإعلاميين الأميركيين حول دوافع عدم دعوة هؤلاء العرب إلى برامجهم التي تناقش أوضاع الشرق الأوسط؟ وكانت إجابة معظمهم أنهم يفعلون، بل ويحرصون على ذلك " لكننا لا ندري لماذا لا يلبون دعواتنا؟ إذا كان الوقت في الصباح الباكر يحتجون، وبعد الظهر هو وقت غير مناسب، أما المساء فلديهم ارتباطات، وفي النهاية توقفنا عن المحاولة"! في الكثير من ادبياتنا التي كتبت حول مخاطبة الآخر، قليلا ما تم التوقف عند سلوك المسؤولين العرب وقدرتهم على الحضور في وسائل الإعلام الغربية، وبقي اللوم عادة يطال تلك الوسائل وحدها، ولم نسمع أو نشاهد محاكمة إعلامية عربيـة جرئية للسلوك الإعلامي للديبلوماسية العربية في الخارج.
في المحصلة، وبعد أربع سنوات على احداث ايلول في الولايات المتحدة، ازدادت فجوة الضعف العربي في مخاطبة العالم، وستبقى هذه الفجوة تتضاعف ما لم تُحدث العقلانية العربيـة الجديدة، التي باتت ملامحها تبرز في الخطاب الفكري، اختراقاً في الخطاب الرسمي والإعلامي، وبدون ذلك ستبقى طلقات العرب طائشة لا تصل أهدافها، وكلماتهم مكبوتة وبائسة لا يسمعها أحد.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد