يعود رئيس الوزراء الإسرائيلي، ارييل شارون، إلى تجديد وعوده بضم مستوطنة معاليه ادوميم، كبرى مستوطنات الضفة، إلى القدس المحتلة، الأمر الذي يعني -بأبسط تقدير- اغتيال فرص إقامة الدولة الفلسطينية، والاستمرار في سياسات الاستيطان. يأتي ذلك بعد أيام قليلة من الإصرار الذي أبداه شارون، في خطابه أمام الأمم المتحدة باللغة العبرية، على العودة إلى خياله الديني الواسع، والتذكير بأرض إسرائيل الكبرى والشعب الذي اختاره الله لكي يعمر هذه الأرض و"يورشليم عاصمة إسرائيل لابد الآبدين"، وفي الوقت الذي أعلن فيه لأول مرة حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم وعدم رغبة إسرائيل بحكمهم. كل ذلك يطرح أسئلة ثقيلة حول جدية ما يحدث داخل الفكر الصهيوني الذي انشأ الدولة ومهد لها على مدى أكثر من قرن؟
يبدو اليوم أن مساحة المناورة أمام شارون وأطراف الدولة الاسرائيلية باتت أوسع من قبل، واصبح بإمكان إسرائيل التكيف مع العالم الجديد ومع تحديات القرن الواحد والعشرين وصراعاته المختلفة واحتمالات التغير في موازين القوى، أو حتى في اتجاهات القوى التقليدية، دون تقديم تنازلات حقيقية تضرب عمق الأيديولوجيا التي قامت عليها! إذ تتعلم إسرائيل كيف تبتدع الحلول الجديدة لمشكلاتها الخطيرة، في الوقت الذي تسجل من خلال ذلك أهدافاً دقيقة في مرمى المجتمع الدولي. وهذه الاحداث تفسر باختصار الاستثمار السياسي والاستراتيجي للانسحاب الأحادي الجانب من غزة، والذي تطمح إسرائيل من خلاله إلى تخفيف عبء الحساسية الديمغرافية، وإحداث ضربة كبيرة في جدار العزلة الدولية التي رافقتها منذ ميلادها، فقد وقف رئيس الحكومـة الإسرائيلية، ولأول مرة في تاريخ إسرائيل، على منبر الأمم المتحدة دون انسحابات واسعة من دول العالم كما تعودنا سابقاً، بل يجب الاعتراف انه استقبل من قبل الكثيرين كما يستقبل صناع السلام الكبار، في الوقت الذي تهرول الدول الإسلامية والعربية إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل وممارسة ديبلوماسية الفرص السانحة.
لا يمكن فهم الخطوات القادمة لارييل شارون ومدرسته السياسية إلا في ضوء الخبرات التاريخية لأزمات إسرائيل ولعبة التكيف المرن معها، والتي تقتضي من المتابع التساؤل حول إمكانية دخول إسرائيل في عملية تاريخية حقيقية لإحداث تعديلات سياسية وثقافية وأيديولوجية تفضي إلى تحولها إلى دولة عادية يقبل بها الآخرون؟
عوّدتنا إسرائيل، خلال خمسة عقود مضت، على مواجهة تصاعد أزماتها بخطوة تمارس من قبل الدولة أو بعض أطراف المجتمع السياسي، وتفضي إلى إحداث نوع من الانفراج التاريخي. لكن قانون الأزمة الإسرائيلي عادة ما يفرغها بموجة من التطرف والعودة إلى اكتشاف إسرائيل الكبرى وحدودها الموعودة من جديد. ولعل هذا المنهج هو أحد مرتكزات إدارة العلاقات العامة الاسرائيلية في الخارج، التي تحاول تقديم إسرائيل بصورة الدولة الراغبة في السلام، والباحثة عن شركاء دون جدوى.
تدرك الصهيونية اليوم حجم التغير الذي نال مصادر تهديد إسرائيل ومسارات تطور هذه المصادر خلال القرن الجديد، واهمها تضخم حجم الحساسية الديمغرافية الداخلية، والتي تؤكد أن التهديد الذي تشكله أرحام الفلسطينيات أقوى من مدى مدافع الجيوش العربية. إذ يتوقع الإسرائيليون أن نسبتهم في الأرض الممتدة من البحر إلى نهر الأردن لن تتجاوز 42% فقط من مجموع السكان مع حلول العام 2020، وهو ما دفع أحد كبار محرري مجلة "اتلانتيك" الأميركية "شفارتس" في عدد أيار الماضي إلى الكتابة تحت عنوان "هل ستبقى إسرائيل موجودة بعد أن يبلغ عمرها مئة عام؟". فبالاستناد إلى تطورات الواقع الديمغرافي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يقرر شفارتس بشكل حاسم أن الرحم الفلسطيني هو قنبلة موقوتة، تعني بكل المقاييس أن الإسرائيليين سوف يتحولون خلال أربعة عقود قادمة إلى أقلية وسط الفلسطينيين.
إحدى ادوات مواجهة مصادر التهديد التقليدية تتمثل في خلق الآليات الكفيلة بقبول العالم بإسرائيل والخروج من العزلة التاريخية، بكل ما يحمله هذا الأمر من أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية، دون التزام بإجراء تعديلات حقيقية بالبنى الفكرية والعقائدية والممارسات على الأرض، وهذا هو تماما المشهد الإسرائيلي عشية الانسحاب الأحادي من غزة، حينما أصر القسم القانوني في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي على رفض إعلان انتهاء الاحتلال رسمياً من القطاع بهدف ان يبقى هذا التطور مفتوحاً على كل الاحتمالات. ويكتمل المشهد في أنشطة الديبلوماسية الإسرائيلية الممتدة من انقرة إلى أروقة الأمم المتحدة في نيويورك، وخطاب شارون أمام المجتمع الدولي. في حين يحبس بعض العارفين بأحوال إسرائيل أنفاسهم بانتظار خطوات شارون القادمة، وبالتحديد فيما يتعلق بالاستيطان ومستقبل الضفة الغربية.
في زمن هجوم السلام في منتصف التسعينيات، أعاد "رابين-بيريز" رسم خرائط إسرائيل الكبرى في الخطاب السياسي بالعودة إلى الداخل وبناء إسرائيل الكبرى بالإنجاز والاقتصاد والتكنولوجيا، ولا ندري اليوم حجم ما ستمنحه المناورة السياسية والاستراتيجية لشارون لرسم خرائطه الجديدة واتجاهاتها.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد