نهاية مسلسل إعادة الهيكلة للإعلام الأردني الذي طال عمره وتجاوز عقدا من زمن سينتهي عند تأسيس هيئة مستقلة لتنظيم قطاع الإعلام وإلغاء الهيئات الرسمية الأخرى سيكون أحد انفراجات التنمية السياسية اذا ما قيض لهذه الهيئة ممارسة دور المنظم لهذا القطاع، وتوفر لها الضمانات التشريعية اللازمة لأداء دورها، بما يعني التخلص من الوصاية الرسمية التي تتخذ أشكالاً ومنابر متعددة ومارست دور الرقابة والوصاية, ومنحت نفسها طوال عقود من عمر الدولة حق تحديد وتعريف المصالح الوطنية دون غيرها.
فإذا كانت هذه هي ملامح الوصفة الأخيرة التي خرجت بها لجنة الأجندة الوطنية, وإذا ما توفرت إرادة تجعلها قابلة للتحقق على ارض الواقع فإنها حرية بالترحيب والتأييد، والا ما هو البديل المطلوب لتطوير الإعلام وتعزيز دوره في التنمية السياسية وفي بناء الدولة؛ معظم النضالات والأدبيات السابقة التي سعت لانتزاع سلمي للحريات الإعلامية لم تقدم تصورا واضحا لمعالم مستقبل الإعلام خارج سياق استقلالية الإعلام، فهذا القطاع بالتحديد بأمس الحاجة لأن ترفع الحكومات يدها عنه.
الدفاع عن الوضع الراهن للإعلام الاردني أو المطالبة بإصلاحات من مقاسات ضيقة ومحددة، تعني استمرار حالة السيولة وفقدان الوزن التي يعاني منها الإعلام اليوم، وتعني استمرار الاستقطاب وتعدد الولاءات والأوصياء على حساب تعدد الرؤى والاتجاهات، وتعني قبل كل ذلك بيئة ملائمة للتدخل الأجنبي عبر برامج التمويل والمنتديات وصخب الدعاية المبرمجة القادمة.
السنوات القليلة الماضية كانت بمثابة المخاض الصعب للإعلام الاردني، إذ شهدت هذه المرحلة إعلاماً مضطرباً ومتردداً وبيئة إعلامية غير مستقرة، يبدو أهم ملامحها في الاضطراب التشريعي الذي شهدته القوانين والتشريعات الإعلامية وعلى رأسها قانون المطبوعات والنشر، حيث شهدت المرحلة ازدحاماً في الشارع الإعلامي وقوانين تذهب وأخرى تأتي، وصحف بالعشرات تظهر ولا تكاد حتى تختفي، وتذبذباً واضحاً في أداء الصحافة وفي مستوى مهنيتها وفي الحريات الصحافية بشكل عام.
في هذه البيئة تقاسم أطراف الدولة والمجتمع الاتهامات بالمسؤولية وبقيت عملية تنمية الإعلام تتأرجح بين خطى التقدم والتراجع، في حين إنّ الواقع يشير بكل موضوعية إلى أنّ التنمية السياسية لها مشكلاتها وأزماتها التي تتطلب الخبرة والحكمة في إدارتها في بيئة سياسية صعبة ومعقدة تتحكم فيها العوامل الداخلية إلى جانب العوامل الإقليمية الخارجية يلعب الاعلام فيها الدور الاساسي باعتباره اداة اساسية من ادوات التغيير السياسي السلمي. ومع هذا فلابد من التأكيد على ان الإعلام الاردني قد شهد تطورات حقيقية خلال العقد الماضي أهمها تطور الوعي بأهمية الحريات الصحافية ودورها الفاعل في التنمية السياسية، إلى جانب الوعي بدور الإعلام في إرساء قواعد المجتمع المدني والديمقراطي.
إن الإعلام المرافق لعمليات التنمية السياسية عادة يواجه تحديات صعبة تجعل جميع الأطراف تخضع في نهاية الأمر إلى عملية الانتخاب الطبيعي في القدرة على البقاء والاستمرار والاستقرار والتكيف، وكما أنّ مرحلة التحول في أجواء التنمية السياسية تحدث الوعي الاجتماعي والمدني بأهمية الحريات الإعلامية ودورها الفاعل، فان هذه المرحلة تتطلب إجراء جراحة عميقة في التفسير السياسي والمدني لفلسفة الدولة كي تصبح أكثر كفاءة في التكيف مع بقية أطراف المجتمع، وهذا يعني في التحليل النهائي مصلحة استراتيجية كبرى لمفهوم المصالح الوطنية، إذ تسهم وسائل الإعلام في الاستقرار السياسي حينما تنجح الدولة في إيجاد الفرص الملائمة لنمو المجتمع السياسي إلى جانب المجتمع الإعلامي.
والاستقرار هو احد المطالب الأساسية لعملية التنمية السياسية، حيث تتعرض المجتمعات المتحولة إلى حالات مؤقتة من عدم الاستقرار السياسي نتيجة أزمات التحول نحو التحديث والديمقراطية والمشاركة السياسية وبناء المؤسسات الجديدة، وتقوم وسائل الإعلام بدور مهم في عقلنة عمليات التحول وترشيدها، وتساهم في تقوية فرص النظام السياسي في الحفاظ على ذاته عبر الزمن، أي أن يظل في حالة تكامل وان تبقى أبنيته المتعددة تؤدي وظائفها بشكل ملائم وبكفاءة عالية.
إن التحولات المتوقعة في البيئة الإعلامية الأردنية وفق المؤشرات الراهنة يجب أن تمنح فرصة موضوعية لتجاوز عتبة قصة الهيكلة التي طالت، والاختبار الحقيقي لها في استقرار معادلة الجمع بين صيانة الحريات الاعلامية وقيادة المجال العام ببعديه السياسي والاجتماعي نحو اتفاق على الأسس العامة لتفسير مفهوم المصلحة الوطنية وآليات التعبير والدفاع عنها، لان هذا هو محك وجوهر الحريات الديمقراطية ومضمونها، فالتنمية السياسية هي عملية تاريخية تتراكم فيها المكتسبات الى جانب الإخفاقات، ولقد آن الأوان لميلاد المجتمع الإعلامي الاردني الذي يتوافق على حد معقول من الحريات ويتوافق أفراده على تفسير واضح ومحدد لمفهوم المصالح الوطنية ويتعدد فيه حراس البوابات الإعلامية وفق فهم مدني ديمقراطي لكي تتنافس هذه البوابات وتتوافق وتناور بدل التفرد التاريخي العتيد لحارس البوابة التقليدي الوحيد.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد