هكذا، بلا مقدمات ولا مناورات، ودون حشود على الحدود القلقة منذ عقود ولا تصريحات غاضبة من الجنرالات، قضى آلاف من الأطفال وطلاب المدارس في كارثة طبيعة تضاف إلى سجل الكوارث الذي فتح على مصراعيه. وتشاء قوانين الطبيعة ان يختار زلزال آسيا الجديد منطقة منكوبة بالحروب والصراعات والفقر والتهميش؛ وكأن المهمة الصعبة التي تتلاعب بها السياسة وتتنادى من اجلها البشرية دون جدوى -وهي القضاء على الفقر والتهميش- قد لاقت استجابة الطبيعة بالقضاء على الفقراء والمهمشين أنفسهم، من تسونامي في خرائب وعشوائيات إندونيسيا وسيريلانكا، إلى كاترينا ومجتمعات الفقر في العالم المتخم، وصولاً إلى كشمير.
ربما تسهم السياسة، في ما يرتبط بها من ظلم اجتماعي واقتصادي، في جعل مجتمعات أو مناطق اكثر عرضة من غيرها للدمار ولوقوع الضحايا نتيجة ما تعرضت له من إهمال وضعف في البنية التحتية، ما يجعلها اقل استعدادا لمواجهة الكوارث. وبالتالي، نلاحظ كيف تتضاعف أرقام الضحايا خلال أيام قليلة نتيجة ضعف جهود الإنقاذ، أو عدم وجود الطرق ووسائل النقل أو الوصول إلى المناطق المنكوبة. هذه القضية توضح حجم الفرق في آثار الكوارث بين إقليم وآخر، لكن القضية المؤسفة الأخرى ان تتحول مآسي الشعوب ونكباتها إلى سوق للجدل السياسي والتوظيف الرخيص أو الإسقاط الخرافي المريض، الذي يوظف مآسي الشعوب وآلامها في رحى الصراعات السياسية التي لا تتوقف. وبعكس ما يتصور مروجو هذا النوع من الدعاية السياسية، فإن آثارها آنية، وربما تذهب بعيداً حينما لا يأتي البيدر كما يريد الزراع، اي خلخلة المعتقدات والقيم المركزية.
في الشهور الماضية، تردد -ولأغراض سياسية- تفسير بعض الكوارث الطبيعية بكونها انتقاماً وعقوبة من السماء. وقد وجد لهذا الاتجاه مروجه، بل أسهمت بعض المحطات الفضائية المرموقة في تحويل هذه الفكرة البائسة إلى مجال للنقاش العام، وكأن الله سبحانه وتعالى يرمي البشر بالحجارة، ويقسمها وفق الخرائط والأقاليم، ولا يفرق بين عذاب آجل وآخر عاجل وبين مذنب وبريء!
قيل ان إعصار كاترينا المدمر هو عقوبة إلهية استهدفت الولايات المتحدة جراء حربها ضد المسلمين في العراق، في الوقت الذي ضرب فيه الإعصار واحدة من أكثر المناطق الأميركية معارضة للحرب، وربما الأكثر تضرراً من تداعياتها! وقيلت الرواية ذاتها عن شرق آسيا، حينما أراد الله الانتقام من القرويين والصيادين المهمشين والفقراء بسبب انتشار السياحة الأجنبية على شواطئ قراهم! وعلى الفور بعد زلزال باكستان المروع، قيل انه عقوبة الله العاجلة بسبب زواج شاذين، إذ تزلزلت الأرض وأطبقت على عشرات الآلاف من أطفال المدارس لا حول ولا قوة لهم، وخسرت امة جيلاً كاملاً من أبنائها!
الأمر لا يتوقف عند الفضاء الثقافي العربي-الإسلامي، وان كانت أشكال التفكير الخرافي هي الأكثر تقدماً، فقد قيل أيضاً في أوساط بعض اليهود المتشددين إن إعصار كاترينا كان انتقاماً إلهيا من الولايات المتحدة نتيجة ضغوطها على إسرائيل للانسحاب من غزة.
الشكل الآخر للتوظيف السياسي للكوارث الطبيعية يتمثل في الشماتة السياسية المبطنة، والتي تنتشر احياناً في تعليقات سياسيين أو آراء بعض الكتاب على طريقة "زلزال باكستان وزلزال العقول"، وعلى طريقة استرجاع تفجيرات لندن الأخيرة واعترافات منفذيها، إذ تربط هذه التعليقات بين مشاعر السخط والرفض التي عبرت عنها أقوال بعض الباكستانيين إبان أحداث لندن من جهة، وبين ما يجري اليوم لمسلمين، في شهر رمضان وبفعل الإرادة الإلهية! وقد تأخذ الشماتة السياسية شكل الربط بين أقوال محمد صديق(احد منفذي تفجيرات لندن) وبين المدارس الباكستانية الدينية وغيرها التي أنجبت الآلاف من المتشددين، والتي كانت هي الضحية الأولى لزلزال باكستان.
وبينما تعمل الكوارث الطبيعية على تهدئة التوترات السياسية، وتقلل ديبلوماسية المساعدات وقت المحن من حدة الفجوة بين المتخاصمين -كما حدث مع انفصاليي إقليم اتشه الإندونيسي أو قبول باكستان أخيرا لمساعدات هندية- نجد أن مبدأ التدخل لأسباب إنسانية، والذي يعد احد سمات العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة، يتم التعامل معه بتثاقل في بعض حالات الكوارث الإنسانية، لأنه كالعادة يكبل بالقيود والاعتبارات السياسية. ولا يتوقف التوظيف السياسي للكوارث على هذه المظاهر، بل تلقننا وسائل الإعلام دروساً جديدة في تعاملها مع أحداث من هذا النوع خلال الشهور الماضية، حينما انتقلت من نسق نظريات وضع الأجندة وتلمس اهتمامات الجمهور، إلى الانتقائية والإغراق الإعلامي كما حدث مع كاترينا وايرزونا، والتجاهل والتغطيات المتقطعة كما يحدث مع كشمير الباكستانية اليوم، على الرغم من الفجوة الهائلة في عدد الضحايا والخسائر بين الكارثتين. يكفي ان نتذكر حجم التضخيم الهائل الذي مارسته وسائل الإعلام لضحايا وخسائر الكارثة الأولى.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد