تدخل حكومة الدكتور معروف البخيت تاريخ الحكومات الأردنية في ظروف لا تختلف كثيرا عن سابقاتها، على الرغم من المناخ الإعلامي السائد الذي يحاول أن يزج بالتفكير السياسي الأردني ليظهر وكأنه يتصرف تحت ضغوطات العملية الإرهابية الأخيرة. بالتأكيد فإن موجة التغييرات التي نالت الطبقة السياسية الأردنية هي استحقاق سياسي صرف يرتبط برؤية وطنية مستقلة ونامية تتفاعل مع الظروف الداخلية والمحددات الخارجية، وتحاول اكتشاف المصالح الوطنية واعادة تعريفها وفق منهج التكيف الإيجابي الذي عرفت به السياسات الأردنية، وما المحدد الأمني إلا أحد جوانبها الذي لم يتراجع في يوم ما، ولم يأخذ اكبر من حجمه الطبيعي أو يطغى على بقية عناصر المعادلة السياسية والتنموية المحلية.
ولعل إضفاء المناخ الإيجابي على أجواء استقبال الحكومة الجديدة، يبقى واجبا وطنيا واخلاقيا قبل كل شيء، رغم كل ما يقال حول قِصر عمر الحكومات الأردنية الذي يشكل في أحايين كثيرة تحديا حقيقيا للاستقرار، لكن السياق السياسي الأردني لا يفهم بأدوات الزمن والديمومة والاستمرارية وحدها، بل ثمة أدوات داخلية أخرى مرتبطة بالعمق المجتمعي الأردني وصيرورته السريعة التي تحاول الانتقال من القبيلة إلى الدولة وسط ساحات ملغمة لم تعرف الاستقرار منذ ظهرت ملامح الجغرافيا السياسية الإقليمية الراهنة. فتغير الحكومات المتوالي في الأردن ليس انقلابيا، على الرغم من تواضع مؤشرات الاستمرارية والتراكم، وهو لم يشكل في يوم قطيعة أيديولوجية بين مرحلة وأخرى على الرغم أيضا من افتقادنا في مراحل عديدة لخط نظر واضح ومحدد المعالم.
في الحقيقة، أمام الحكومة الجديدة ظروف موضوعية وعناصر قوة إضافية لتجتاز بالأردن مرحلة العبور نحو المشروع الإصلاحي؛ فالكثير من التجارب وخبرات الآخرين أيضا أكدت أن أقسى وأدق مراحل التغيير والإصلاح صعوبة هي مرحلة العبور، أي التحول والانتقال من نهاية مرحلة إلى بداية مرحلة أخرى. ولقد مر الأردن بخمس حكومات منذ مطلع الألفية الجديدة حاولت اجتياز مرحلة العبور وحققت إنجازات وفق ظروفها إلا أنها جميعا لم توفق في اجتياز هذه المرحلة؛ أي البداية بالدخول إلى عملية إصلاح حقيقي والتي تعني حسم أزمات الإصلاح والتنمية السياسية، التي عانت منها قبلنا طوال القرن العشرين الماضي عشرات الدول تحولت إلى نظم ديمقراطية وحافظت على استقرارها وأمنها في نهاية المطاف.
على الرغم من أن مضامين هذه الأزمات متباينة من مجتمع إلى آخر وقد تظهر أزمة ما في هذا المجتمع أكثر من غيرها إلا أن العديد من العناوين العامة لهذه الأزمات مشتركة؛ وهي أزمات الهوية والشرعية والمشاركة والاختراق والاندماج والتكامل التمأسس والتوزيع.
الأزمات السبع السابقة واجهت الحكومات الأردنية التي أعلنت خطابات إصلاحية منذ خمس سنوات مضت، وكما أن تلك الحكومات لم تستسلم أمام هذه الأزمات، بل تعاملت معها إلا أن أيا منها لم تحسم ولا واحدة من هذه الأزمات، وليس من المعقول أن يطلب من الحكومة الجديدة أن تخرج البلاد مرة واحدة منها، بل أن تحسم رؤيتها الإصلاحية حول كل أزمة وتخلق إرادة وطنية وتؤصل ثقافة وقيما كبرى حولها.
إن عملية التحديث والإصلاح لا تسير في خط واحد دون انقطاع أو توترات ومواجهات. ولقد واجه مشروع الإصلاح الأردني بشكل واضح أزمة حول الهوية قصدت مآل مشروع الإصلاح السياسي بأكمله ومدى أصالته، مقابل مدى ارتباطه بمسار التسوية السياسية للصراع الفلسطيني– الإسرائيلي وموقع الأردن منه وجاء تفجير هذه الأزمة التي لم تحسم بعد امتدادا لأزمة تاريخية تطال مضمون الهوية الوطنية نتيجة تقصير الدولة والمجتمع معا في استكمال بناء الهوية المركزية. في هذا الوقت بات مشروع الإصلاح يحتاج إلى المزيد من الشرعية، وهي الأزمة الثانية التي فتحت الباب واسعا أمام تجاذبات متعددة في حين كانت الحكومات تفتقد الى سلطة ضبط إيقاع صيرورة الإصلاح أو ربطه بنوع من الإكراه والإلزام.
ومع أن عقارب ساعة الإصلاح بقيت تتراجع وتتقدم تأخذها تارة حالة الطوارئ المحيطة، وتارة أخرى تجاذبات الداخل، إلا أن الحكومات الأردنية التي تعاملت مع مشروع الإصلاح لم تحدث اختراقا حقيقيا للعمق المجتمعي، أي أنها بقيت عاجزة أمام ما يسمى"أزمة الاختراق" والتي تعني الوصول بخطاب الإصلاح إلى كافة فئات المجتمع الأردني. بمعنى وضع سياسات وبرامج تعمم على جميع المواطنين وتخاطب تفاصيل حياتهم اليومية وتصلهم في ابعد النقاط عن مركز النظام السياسي واقربها. والأمر الذي ضاعف من اثر أزمة أخرى ممعنة وهي "المشاركة"، ففي مرحلة ما قبل العبور نحو الإصلاح تبدو أزمة المشاركة على محورين: الأول التدفق المفاجئ للفاعلين السياسيين الجدد داخل العملية السياسية، وتضخم حجم النخب السياسية ما يستدعي المزيد من التوترات والاستقطابات مقابل عدم قدرة المؤسسات السياسية على استيعاب الجميع. المحور الثاني احتكار هذا الشكل من المشاركة المأزومة على المركز فقط وغياب الأطراف وامتدادات المجتمع الأخرى، وبالتحديد في المحافظات والبادية وتردد لدينا مقولات(الأغلبية الصامتة) وغيرها.
وعلى المحورين السياسي والاجتماعي لم توفق الحكومات الأردنية في استيعاب أزمات الاندماج والتكامل، حيث نمت أزمة الاندماج الاجتماعي، بمعنى آخر اننا لم نوفق بعد في انتاج "رأس المال الاجتماعي" الذي يشكل الأرض الخصبة للإصلاح ومنه تتشكل(الجماعة الوطنية المدنية) التي تعمق استيعاب المجتمع للإصلاح وتحرص دائما على إبقاء خطابات الإصلاح والتنمية السياسية في دائرة الحكمة والعقلانية واستشعار المصالح الوطنية بحساسية واضحة. وبقيت أزمة مأسسة الإصلاح الأكثر وضوحا والمتمثلة في عدم القدرة على تحويل فعاليات وجهود الإصلاح إلى أطر مؤسسية وتشريعية واضحة يمكن البناء التراكمي فوقها، حيث بقيت الحكومات الأردنية مترددة في إطلاق القوانين الأساسية المرتبطة بالإصلاح السياسي، مثل قوانين الأحزاب والانتخابات ومكافحة الفساد، وتبدو أزمة القدرات التوزيعية للحكومات السابقة واحدة من أكثر الأزمات احتداما، والتي تعني التوزيع العادل للقوة والثروة والسلطة بين أقاليم الدولة وفئات المجتمع وفي أحد جوانبها جربت فكرة القفز على "التوازن الجهوي" في تشكيل النخب الحكومية ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً.
أمام هذه الأزمات يتوفر للحكومة الجديدة تراث من التجارب لحكومات سابقة التي لم توفق في معظم المرات من الاقتراب الحقيقي من أزمات الإصلاح، ويتوفر لهذه الحكومة أيضا الإطار النظري الواضح لمشروع الإصلاح الوطني المتمثل في الخطة الإرشادية (الاجندة الوطنية)، كما يتوفر للحكومة إرادة سياسية حسمها خطاب التكليف بأن الإصلاح لم يعد مجرد خيار بل الهدف والمصير الوطني، ويتوفر لهذه الحكومة مناخ سياسي واجتماعي أكثر توافقا. وتلتقي هذه السمات لتضاف إلى ما يمتاز به رئيس الحكومة من كاريزما الانطباع الأول وابتعاده عن الصالونات والمرجعيات السياسية التقليدية.
إن مرحلة العبور نحو الإصلاح تعني الاشتباك الفعلي مع الأزمات السابقة، وهذا لا يعني بأن الحكومة الراهنة مطالبة بأن تحسم مرة واحدة كل أزمات الإصلاح والتنمية السياسية بقدر ما هي مطالبة بالاشتباك الحقيقي معها. وهذه المهمة تحتاج إلى سياسيين أقوياء أكثر من عشاق الإصلاح ومريديه.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد