ليالي رمضان مراگش تستحضر
زمن
السعديين وتوقظ الملك سليمان من
نومه
طقوس وعادات لا
تفنى
مراگش تحكي أسطورة
الغياط
عزيز باطراح
الأحداث
المغربية
في
رمضان مدينة مراكش العريقة من أكثر
المدن المغربية احتفاظا بتقاليدها وعاداتها، وهي العادات والتقاليد التي تبدو جليا
خلال شهر رمضان في أماكن العبادة وفي الأسواق وفي الشوارع وداخل بيوت المراكشيين
وفي
منتدياتهم. وفي كل فضاء مراكشي يعيد المراكشيون الذين يعيشون خارج المدينة
ذكرياتهم بعد أن يعودوا لإمضاء شهر الصيام بها. تستقبل المدينة العتيقة أبناءها
واحداً واحداً، وتأبى إلا أن تطعمهم من الطنجية، التي يكثر الاقبال عليها في هذا
الشهر الفضيل، فكل" فرناتشي" يستقبل ما لا يقل عن مائة طنجية أو يزيد في اليوم
الواحد.
عديدون هم أولئك الذين يعيشون طيلة الاحدى عشر شهراً خارج أسوار
المدينة، كما لو أن أماً لفظت أبناءها، لكن بحلول شهر رمضان تفتح ذراعيها وتعانق
أبناءها من جديد، يعبر المراكشيون أزقة أحياء تذكرهم بطفولتهم، بـ"أفوس اللي طاح"
هناك بحي الزاوية، وبـ"الحق اللي خلصو" فلان أو علان...
مراكش: الأحداث
المغربية مراكش الذاكرة والمكان تأصيل لعراقة أمة وأصالة شعب ، فوحدها هذه المدينة
المسكونة بعبق الشرق وسحر افريقيا تستطيع منح زائرها متعة الإحساس بالعيش في زمانين
متناهيين في عمق التربة والتاريخ . فمراكش الذاكرة والمكان جزء لا يتجزأ من تاريخ
مغربي أصيل توحدت عنده المتناقضات لتنبت شجرة طيبة تمتد بجذورها في عمق القارة
السمراء وتعلو أغصانها فتورف ظلالا فيحاء في ربوع أطلس الأمازيغ، و تعرج على الضفة
الأخرى من الأبيض المتوسط، تفوح بعطر روح الشريعة الاسلامية السمحاء التي مكنت من
أن
تتوحد عندها الأضداد والمتناقضات في انسجام غريب يعز وجوده في غير هذا المكان
.
ولأن لمراكش كل هذا العنفوان، فإن للزمن فيها محطات أساسية لا تستقيم معها الحياة
داخل مدينة الرجالات السبع ولا العيش فيها دون الترجل في كل محطة لتقديم فروض
الوفاء والامتنان عبر إحياء طقوس واحتفالات تختلف باختلاف كل محطة على حدة، ليبقى
رمضان بكل ما يحمله الشهرمن دلالات ورموز أحد أهم المحطات السنوية في الحياة
بالمدينة، حيث تنطلق الاستعدادات مع التباشير الاولى بقرب اشراف شمس شهر شعبان على
المغيب، فيهب الأطفال في قوافل تعبر الأزقة الضيقة والملتوية معلنين حلول شهر
الامساك عن جميع الشهوات: بابا رمضان رمضاني عليه نبيع سروالي في اشارة الى ضرورة
احياء طقوس هذا الشهر المبارك في كل حي من أحياء المدينة وداخل كل بيت بغض النظر عن
المستوى الاجتماعي للسكان. وبطريقة لاتخلو من استفزاز يهتف الأطفال: احيا بابا
رمضان اسقط الكيافا منذ الأسبوع الأخير من شهر شعبان تبدأ الأسواق في ارتداء لبوس
خاص
عنوانه الاساسي تزيين واجهات ومداخل المحلات التجارية بأصناف مختلفة من
الحلويات والتمور وبعض السلع الخاصة بهذه المناسبة من عطريات وفواكه. أما داخل
أحياء المدينة العتيقة فان الاقبال على "فران الحومة" الذي يزداد نشاطه أكثر من
المعتاد يشكل مؤشراً على قرب حلول شهر الصيام. يستقبل "فران" الحي يومياًعشرات
الأصناف من الحلويات :" أطهلا ليا في هاد الحلوة ألمعلم" فيرد المعلم بلغة لا تخلو
من
التباهي بصنعته:" علاه امتا كان فراني مامهلي، غير طهلاي نتي ففلوس العواشر".
لأماكن العبادة في رمضان مكانة خاصة حيث تبدأ في التهييء لاستقبال شهر الغفران بكل
ما
يليق به من تبجيل وتعظيم ، حيث يغير فراش المساجد، ويتم بث أنواع من الزرابي
التي تزيد الفضاء جمالاً وقداسة. وقبيل حلول شهر رمضان تدب حركية غير معهودة في
صفوف الائمة والقراء الذين يراعى في اختيارهم درجة اتقانهم لفنون القراءة والترتيل
ليتولوا قيادة جموع المؤمنين في اداء الفروض والنوافل، بينما تعرف مجموع المآذن
والصوامع تغييرات جذرية في وظائفها بعد أن يعتلي صهواتها جنود رمضان المجهولون من
طينة النفار، الغياط والمهلل، ثلاثي اوركسترا السمفونية الروحية التي تنشر نفحات
شدوها على ليل المدينة الرمضاني لتشفي القلوب المكلومة والافئدة الجريحة، حيث يلعب
مصباح مئذنة مسجد ابن يوسف دور قائد الاوركسترا من خلال توزيعه للأدوار بين هذا
الثلاثي الذي تختلف حول اسباب نزوله الطروحات والافكار، وإن كانت لا تختلف عن
أصالته وتجذره في عمق الذاكرة المراكشية . فمؤنس المرضى ومواسي الايتام والثكالى،
كما
يحلو للبعض تسميته، هو غياط رمضان بمراكش، الذي يرجع تاريخ استعمال الغيطة في
ليالي رمضان إلى عهد الملك سليمان الذي من الله عليه بحكم الانس والجان قبل ان
يدخله الغرور في قوته وعظيم ملكه ويعلن في خيلاء وغرور ان لا ملك يعلو على ملكه،
وأن
لا أحد من ملوك زمانه بقدر على مضاهاته في ملكه. ولأنه لم ينه ذلك القول بشكر
الله على هذه النعمة، فقد سلط عليه تعالى اضعف ملوكه وسلاطينه، وكان هو سلطان
النوم، بحيث استبدت بسليمان نومة عميقة امتدت اياما وشهورا حتى خافت عليه رعيته
والحاشية. وبالنظر لقوة سليمان وعظم شخصيته لم يتجرأ أحد على الدخول عليه في غرفة
نومه لاستكشاف جلية الأمر والخبر، حتى اهتدى احد ملوك الجان إلى ابتكار آلة الغيطة
التي شرع في عزف انغامها قرب مخدع النوم حتى استيقظ سليمان واستغفر ربه عما بدر منه
من
تيه وخيلاء، ومن يومها والغياط يمتطي صهوة صوامع مراكش خلال شهر رمضان ليشدو
بمعزوفته الرائقة : ياربنا ياخالق العوالم حل بيننا وبين كل ظالم ياربنا يا خالق
الانفاس حل بيننا وبين شر الناس لتتسلل هذه النفحات العطرة بردا وسلاما إلى أفئدة
المرضى والمحزونين ببهجة الجنوب، وبذلك بقيت هذه الحكاية العابرة للأزمنة والحدود
راسخة في الذاكرة المراكشية رسوخ الغياط بصوامع المدينة كل رمضان ـ أما النفار فتلك
قصة
اخرى تعود بها الحكاية المراكشية الى "عودة السعدية" والدة السلطان المنصور
الذهبي، التي كانت في احدى جولاتها الرمضانية بحدائق قصر البديع والجو حار يخنق
الانفاس، فتاقت نفسها لبعض من فاكه الخوخ والرمان التي تمتلئ بها اشجار الحديقة،
حيث
لم تشعر الا ويدها تمتد الى فمها بحبة خوخ قبل ان تتوب لرشدها. وتدرك انها في
حالة امساك وصوم، لتستغفر الله وتقرر ان تخصص جزءا من اموالها وتوقفه على النفارة
بالمدينة شريطة ان يتسلقوا كل شهر رمضان صوامع مساجد المدينة ليلا، لتنبيه الغافلين
وتذكير الساهرين والناسين، ومن يومها والنفار يردد : عودة كالت رمضان بالخوخ
والرمان اغفر ليها يا رحمان . واذا كانت أيام رمضان في العديد من المدن تمر رتيبة،
فإن
أيامه بمراكش، وخاصة بأحيائها العتيقة، تجعل أيام هذا الشهر المبارك مناسبة
لأبناء مراكش، وخاصة الذين غادروا المدينة العتيقة، ليصلوا الرحم مع الجيران
القدامى، كما مع الأماكن. عديدون هم أولئك الذين يعيشون طيلة الاحد عشر شهراً خارج
أسوار المدينة، كما لو أن أماً لفظت أبناءها، لكن بحلول شهر رمضان تفتح ذراعيها
وتعانق أبناءها من جديد. يعبر المراكشيون أزقة أحياء تذكرهم بطفولتهم، بأحداث مرت
هنا
بحي الماسين، بـ"أفوس اللي طاح" هناك بحي الزاوية، وبـ"الحق اللي خلصو" فلان أو
علان، وكيف أن الحي كله غضب عليه الى حين عودة ليلة الدقة بعد مرور سنة كاملة.
تستقبل المدينة العتيقة أبناءها واحداً واحداً، وتأبى الا أن تطعمهم من الطنجية،
التي يكثر الاقبال عليها في هذا الشهر الفضيل، فكل" فرناتشي" يستقبل مالايقل عن
مائة طنجية أو يزيد، ويفضل البعض تناولها وقت الافطار، فيما يؤجل البعـض الآخر
تنــــاولها حتى وجـــبة العــشاء. تتعدد الطقوس والعادات وتختلف التقاليد
والاعراف، لكنها جميعا تنصهر لتفرز نكهة خاصة تتميز بها مراكش عن غيرها من بقية مدن
المملكة، لتمنحها فرادة وخصوصية تؤشر على عراقة المدينة وتجذرها في عمق التربة
والتاريخ، لتبقى مراكش بذلك عروسا يتجدد شبابها باستمرار، و بشكل لا يترك مجالا
للتجاعيد كي تعرف سبيلا لمحياها
.