في الوقت الذي تُكتم فيه أنفاس التغير الديمقراطي في أكثر من ساحة عربية، إيذاناً باختناق مشروع الإصلاح السياسي العربي في مهده، تتوالى الاغتيالات والتصفيات الجسدية وآخرها اغتيال النائب اللبناني جبران توني. وتلاه بيوم واحد اغتيال المرشح الانتخابي والناشط السياسي العراقي مزهر الدليمي - رئيس قائمة التقدم في الانتخابات الجارية، وأحد رموز التيار الديمقراطي الوطني العراقي- الذي طالب في أكثر من مناسبة بإجراء حوار سياسي بين السنة والشيعة، ودعا في مؤتمر الوفاق الأخير لحوار مع المقاومة العراقية، وإشراك بعض أطرافها في العملية السياسية الجارية. المهم في المشهد العربي الذي لا تتوقف فيه جنائز السياسة أن الديمقراطية تأكل أبناءها احياناً كما فعلت الثورات في ذات زمن عربي.
تعددت مصادر الرصاص المتطاير في معركة الديمقراطية العربية، ولم يعد بالامكان تحديد هويته وازدادت أصابع الاتهام التي تشير إلى اتجاهات وجهات متعددة ومتناقضة، ما يضع علامات استفهام كبرى حول جدوى لجان التحقيق والمحاكمات الدولية التي يطالب بها ذوو الضحايا، كلما عصفت التفجيرات والسيارات المفخخة بضحية جديدة.
يبدو إن أولئك الذين يصفهم الرئيس الأميركي ومراكز الدراسات والبحوث التي تقدم لإدارته الدعم المعلوماتي والمعرفي بـ(الكتلة الحاسمة في التغيير) هم ايضاً من اكثر ضحايا التغيير إلى جانب قوافل الضحايا الذين يتولى سقوطهم منذ انطلاق(مسيرة الحريات). فالسمة الرئيسية للمناخ السياسي السائد في الشرق الأوسط هي حالة الفوضى الهدامة التي لا تبشر للأسف بأي تراكمات حقيقية على طريق استعادة جزء من كرامة الناس المستهان بها. وهذا الاستنتاج لا يقصد منه ان شعوبنا ما زالت مبكرة على الديمقراطية وتحتاج إلى مخاضات أخرى، ولا يصل إلى أننا نحتاج إلى ديمقراطيات بمقاسات خاصة بنا، ولا حتى الاستنتاج بأن القوى المناوئة للتحول الديمقراطي هي بمكانة أقوى من الديمقراطيين الذين سالت دماؤهم على طول الخرائط وعرضها.
المشكلة تبدو في واحد من ملامحها في المناخ الذي وجدت قوى التغير الديمقراطي نفسها في وسطه، الأمر الذي حول الديمقراطية إلى أداة تتجاذب من خلالها المصالح والأجندات السياسية المتناقضة والمتصارعة، نلاحظ بكل جدية كيف تضرب موجة الانتخابات العربية بشكل سافر انوية التحول الديمقراطي الأصيلة والطارئة، ذات التقاليد الراسخة والأخرى الجديدة.
يكفي أن نراجع خارطة التفتت والصراعات والانقسامات في الأحزاب المصرية من حزب الوفد العريق إلى التجمع وصولاً إلى حزب الغد، لنلاحظ كيف أعادت الانتخابات اللبنانية الطائفية السياسية مرة أخرى ووضعت المشهد اللبناني أمام حالة اقرب إلى اليأس السياسي. ونلاحظ كيف تُبنى الديمقراطية العراقية على التصفيات المتبادلة والثأرية التي يشارك فيها الجميع دون استثناء، وكيف نبت لهذه الديمقراطية أسنان تأكل أبناءها قبل أن ينبت لها لسان تتكلم به وتحاور من خلاله. ولعل واحد من هذه الشواهد القاسية ما يكتشف كل يوم من معتقلات، ومن تراجع ينال الحقوق والحريات ما يجعل مشاريع الديمقراطيات العربية تظهر بشكل كاريكاتيري مهين وتثير مشاعر الخيبة والصدمة التي تدفع بقايا الديمقراطيين العرب للتوبة عن ديمقراطيتهم.
ما نشهده اليوم يدل بالتأكيد على أن آلام مخاض التغير الديمقراطي في العالم العربي عسيرة وقاسية، والأصوات العقلانية ترد هذه الحالة إلى فشل النخب الديمقراطية العربية منذ النصف الأول من القرن العشرين في الدفاع عن استحقاقاتها وميلها في كل لحظة تاريخية فاصلة إلى القبول بالحلول التوقيفية أو بالاحتواء والتكيف السلبي، أو في أحسن الظروف الهروب النظيف من الساحة. لكن الخطورة فيما يحدث اليوم أن يصبح هؤلاء الديمقراطيون هم "الحلقة الأضعف" التي لا تملك حتى حق الدفاع عن أدميتها وحقها في الحياة، في حين تتناوشهم النيران الصديقة قبل غيرها من كل الاتجاهات.
السؤال الآخر المشروع في أجواء المناخ العربي السائد يدور حول الأطراف الخفية والمعلنة في المعارك الدائرة على أكثر من ساحة عربية باسم الديمقراطية! وهل هناك بالفعل انوية لبنى ديمقراطية حقيقية ومدى اشتباكها الفعلي في الصراع. بمعنى: هل وصل الاشتباك إلى المجتمع أم إن المعارك تدار باسم القواعد الاجتماعية ويطلب منها دفع الثمن وحسب؟ ثم كيف نحكم على شرعية العناوين الديمقراطية لهذه التيارات والكيانات السياسية والمدنية بدون أن تدخل الصراع؟ وهل الصراع ضروري في المدى القريب والمتوسط؟
وإذا ما عدنا إلى نقطة البداية؛ فإن الخطورة في هذا الصراع هو المناخ السياسي والأمني السائد الذي تغيب فيه هوية أطراف الصراع وأهدافها وتختلط فيه نيران الأصدقاء والأعداء معاً.
بالفعل التغيير انطلق في العالم العربي، لكن لا احد يستطيع أن يحكم إلى أين. كان الفيلسوف الإيطالي غرامشي يقول "القديم في طريقه إلى الاندثار، لكن الجديد لم يولد بعد"، وقبل ثلاثة عقود سُئل الفيلسوف الصيني شوان لاي عن رأيه في الثورة الفرنسية التي وقعت عام 1789 وكان رده إن الوقت مازال مبكراً لإعطاء رأي في الموضوع.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد