لا شك أن مستقبل العراق سوف تحدده العملية السياسية في نهاية المطاف، إلا ان ثمة مساحة واسعة بين مسار طبيعي تنمو من خلاله الأحداث، ومسار آخر تفرض عليه الأحداث. ولعل المسار الأخير هو الأقرب لتفسير ما ستؤول إليه نتائج الانتخابات الأخيرة، وما سوف يترتب عليها من برلمان وحكومة ستحكم العراق في المرحلة المفصلية القادمة.
لم تتوقف الانتقادات اللاذعة لمسار العملية السياسية منذ إطلاقها بتشكيل مجلس الحكم المؤقت بزعامة بريمر حتى من اكثر المراقبين إيمانا بها، ومرت الأشهر العراقية الثلاثون الماضية عبر دراما كئيبة من السيارات المخففة والأحزمة الناسفة والسلوك السياسي الثأري المتبادل والتدخلات الإقليمية والفساد مقابل حرص واضح من القوة المحتلة على إدامة إدارة الصراع والاشتباك الحذر معه.
انتهى الفصل الأطول من مسار بناء النموذج الديمقراطي في العراق بإغلاق صناديق الاقتراع لانتخابات الجمعية الوطنية مساء الخميس الماضي، والمحصلة ديمقراطية عمياء شقت طريقها على ثلاثين ألف جثة عراقي سحقوا منذ بدء الاحتلال الأمريكي. ولعل من الطريف أن الأميركيين الذين استطاعوا إعادة الكهرباء إلى نيويورك خلال ساعات لم يتمكنوا بعد قرابة ثلاث سنوات من الاحتلال وبعد أن استولت شركة (بكتيل) الأميركية على كهرباء العراق من تأمين وصول الكهرباء إلى مراكز فرز الأصوات ليلة الانتخابات، فكانت ديمقراطية على العتمة بالفعل.
لقد كرس مسار العملية السياسية خطوط الانقسام الطائفي والعرقي، حتى عادت أشبه ما تكون بجدران إسمنتية فاصلة، وفشل هذا المسار في استيعاب أطراف المجتمع الأخرى ولو على اقل تقدير بالاستفادة من نماذج بناء الديمقراطيات التي أنجزتها الولايات المتحدة نفسها تحت الاحتلال؛ مثلما حدث بعد الحرب العالمية الثانية في المانيا أو اليابان أو كوريا، وتحت وطأة الحاجات اليومية للأفراد والجماعات من الحاجة إلى الأمن والغذاء والماء والكهرباء غابت القضايا الأساسية التي يحتاجها الناس بالفعل من العملية السياسية وفي مقدمتها بناء المواطنة والثقافة السياسية الجديدة وتأسيس مداميك قوية للاندماج السياسي وجميعها معطيات من المفترض أنها تحصيل حاصل في سلوك أي مجتمع يواجه أخطارا خارجية تقاسمه الدور في تحديد مستقبل البلاد.
شكل مجلس الحكم في تشكيلته العتيدة أول حاضنة لإعادة إنتاج النظام الطائفي والعرقي، ثم توالت الأحداث بالإقصاء والممانعة تارة وبالتفجيرات الكبرى ذات الحساسية العالية تارة أخرى، والممتدة من تفجير مقام الإمام علي في النجف صيف عام 2003 إلى حادثة جسر الأئمة صيف هذا العام، وصولا إلى الدستور الذي جسد هذا النموذج، ومن المحتمل أن تشكيلة الجمعية الوطنية سوف تصل إلى النتيجة ذاتها.
ولقد عملت قوات الاحتلال على دعم ومؤازرة قيام جبهة شيعية قوية ومتماسكة من خلال تقديم الدعم المادي واللوجستي للعناصر الأكثر تطرفا فيها. في المقابل استخدمت قوات الاحتلال المدخل الإيراني بذكاء لضمان استمرار هذا المنهج وتفويت أي فرصة لنضوج سياسي مدني محلي، وهو الأمر الذي يفسره الصمت الإيراني منذ ليلة سقوط بغداد والاختباء تحت عباءة الحياد الإيجابي مرورا بواحدة من اكبر عمليات الاختراق الأمني والسياسي تمارسه دولة والذي مارسته إيران خلال العامين الماضيين وضمنت من خلالها السيطرة على خطوط اللعبة الأمنية والسياسية الداخلية.
وفي الوقت الذي بقي الغموض يسيطر على الدور الإيراني في العراق وما شابه من تواطؤ أميركي وصمت دولي، ستوضح الأيام القادمة كيف ستحصد الأطراف الإقليمية ما زرعته بصمت في سنين الفوضى العراقية، يكفي أن نستمع جيدا إلى الرئيس الإيراني السابق رفسنجاني الذي صرح بالأمس - وهو يستمع للأنباء التي تتحدث عن تقدم القائمة الشيعية في الانتخابات الراهنة- بأنه يجب على العراقيين أن لا ينسوا حق إيران بتعويضات كبيرة عن الحرب مع العراق.
ذهب العراقيون منذ الاحتلال إلى صناديق الاقتراع ثلاث مرات، من بينها مرة للاستفتاء على الدستور، وكان العراقيون في السابق قد تعاملوا مع خمسة دساتير وأكثرها ديمومة دستور العهد الملكي عام 1924، الذي جاء ثمرة تلاقح قوى وأفكار عدة. وللعراقيين تقاليد ممتدة في إدارة العمل السياسي منذ العهد العثماني والانتداب البريطاني والعهد الملكي مرورا بعهود الجمهوريات المغلقة، وفي جميع فصول هذه الخبرة العراقية أدارت النخب والقوى السياسية العراقية المتضاربة الصراع على قاعدة التوافق وليس الأغلبية، وهي القاعدة التي أنقذت مرارا البلاد من الحرب الأهلية ومن التطاول الإقليمي والدولي. والتوافق الديمقراطي هو صيغة محترمة لتداول السلطة موجودة في العديد من الديمقراطيات الغربية ذات التنوع الاثني والثقافي.
الحفر في التاريخ العراقي المعاصر لا يصل تماما إلى ما تروج له بعض القوى السياسية والفكرية، بالفعل قاوم سنة العراق الدولة الصفوية وهادنها الشيعة، لكن ليس كل الشيعة، وبالفعل قاوم شيعة العراق الاحتلال البريطاني وتباطأ العرب السنة في المقاومة، لكن سرعان ما انضموا إلى صفوف المقاومة، ويكفي أن نتذكر أن أحد زعماء العشائر السنية هو الذي اقدم على اغتيال المندوب السامي البريطاني.
نحن في هذا الوقت أمام احتمالات قائمة بأن تأتي الجمعية الوطنية بحكومة عراقية شيعية ترسخ النزوع لدى بعض التيارات الشيعية للاستئثار بالسلطة السياسية وإقصاء بقية القوى الاجتماعية الأخرى، وبالتحديد السنة وإذا مر هذا السيناريو، فانه بالحتم يحمل دلالات خطيرة سوف تفضي بظلالها على مستقبل العراق، واهم هذه النتائج انتكاسة المشاركة السياسية الحذرة للعرب السنة، وربما تخلق هذه النتائج تحولات دراماتيكية أكثر تطرفا في المشهد السياسي والأمني العراقي. فأمام الحكومة المنتظرة مساحة زمنية واسعة لممارسة دكتاتورية الأغلبية، والانفراد بالمحافظات الجنوبية وتحويلها إلى امتداد لولاية الفقيه على الحدود الشرقية.
لم يوفق العراقيون بإنجاز التيار التاريخي المطلوب العابر للطوائف على المستوى المجتمعي، وما زال أمامهم فرصة ضئيلة لإنجازه على المستوى السياسي من خلال بناء كتلة سياسية توافقية، وهي ربما تكون الفرصة الوحيدة الباقية لقطع الطريق على لعبة الأمم الجديدة الممتدة من واشنطن عبر بغداد الى طهران

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد