نتحدث كثيراً عن ضرورة ردم فجـوة الوعي في علاقـة الدولـة بالمجتمع باعتبارها أولويـة أساسيـة في تعضيد جهـود الإصلاح والتغير الاجتماعي. وفي كل مرة نشهد موسماً للحملات الإعلامية والترويجية، مرة فيما يتعلق بالإنتاجية والفرص الاقتصادية مرورا بالصحة الإنجابية والطفولة الآمنة، وأخيراً في التنمية السياسية والوعي القانوني بالحقوق السياسية والمدنية، وفي كل هذه المواسم ترتبط هذه الحملات بجهة ممولة خارجيـة ومنظمة أهلية أو من القطاع الخاص.
ومع الأخذ بعين الاعتبار شرعية السؤال عن تفعيل المضامين الدستورية على ارض الواقع قبل تذكير الناس بها، إلا ان هذه الحملات في مجال الوعي السياسي والمدني تذكر بأن علاقـة الدولـة بالمواطن تحتاج أكثر من غيرها لبناء ثقـة راسخة وتجذيرها في وعي الناس، بعيداً عن التشكيك والنوايا حمالة الأوجه التي تبرز كلما تململت جهـة ما للتذكير بالتنمية السياسية.
وهذه الثقـة الثمينة تحتاج إلى مبادرات محليـة وطنيـة خالصة، على الأقل للتخفيف من وطأة إشكالية الإصلاح السياسي في المنطقـة بأكملها. وقبل ذلك كله تتطلب جهود إثراء الوعي المدني والسياسي منح التنشئة السياسية لونا محليا خالصا من خلال مبادرات وطنيـة واضحة الملامح والمقاصد، لكي نخرج من دائرة التشكيك، ونؤسس لشرعية يتوافق حولها أطراف المجتمع كافة.
تبدو على السطح اليوم مباشـرة إشكاليات التنشئة السياسية والمشاركة السياسية مقابل الحفاظ على جوهر الدولة وعناصرها الأساسية المتمثلة في الشرعية والهوية. وهذا يعني ان المشروع الإصلاحي السياسي الأردني أمامه في هذا الوقت تحدٍ اجتماعي أكثر من كونه تحديا سياسيا؛ يتمثل ذلك في استكمال الاندماج الاجتماعي تحت ظل الهوية الموحدة وقاعدة شرعية الدولة دون اللجوء إلى الترقيع والتراضي الاجتماعي الذي سوف يقود حتما إلى تفسخ الوعي حول الدولة وشرعية مشروعها في التنمية السياسية. في حين أن الاندماج الاجتماعي وصيانة الهوية عن طريق أدوات الإصلاح وأهمها التنشئة السياسية هما الأقدر أكثر من غيرهما على القيام بمهمة بناء التكامل السياسي.
الحالة الديمقراطية الأردنية أقرب ما تكون إلى عملية اجتماعية تاريخية تتقدم وتتراجع وتمر في مراحل ازدهار وتواجه تحديات وتتعثر أحياناً، وهي بذلك عملية اجتماعية ذات مظاهر وآليات سياسية اكثر من أن تكون خياراً أيديولوجيا. وهذا المسار يعكس الاستجابة للخيارات السياسية التي حددتها الدولة لنفسها منذ بدايات تكوينها، وبذلك فالديمقراطية تعد في الحالة الأردنية خيارا سياسيا اجتماعيا من اجل الاستقرار واستمرار النظام والحفاظ على قيمه. وهي اليوم خيار سياسي اجتماعي أيضا يطرح نموذجا محليا يواجه تحدي الدور الإقليمي الآخذ بالضمور والتراجع. وهذا يتطلب قبل كل شيء أدوات ومناهج وبيئة ايجابية لتنشئة سياسية جديدة.
أمام المشروع الإصلاحي الأردني في جوانبه السياسية في هذه المرحلة مهام معنية بالمجتمع السياسي قبل العملية السياسية ومهام معنية بالتنشئة السياسية قبل سؤال استرضاء النخب السياسية. في حين أن تراث التجربة الأردنية طوال العقود السابقة في التعامل مع المجتمع السياسي المحلي بحاجة إلى إعادة تأهيل وتحديث جديد، وهذا لا يعني التخلي عن قيم هذه التجربة، إذ تعبِّر التجربة السابقة عن دبلوماسية اجتماعية محلية وقائية في مواجهة حالة الطوارئ التاريخية، وشكلت حالة من حالات الديمقراطية التي اتسمت بروح سياسية خاصة وبتقاليد محلية قد تبدو أحياناً متناقضة مع منهج التحديث، وهي اليوم بحاجة ماسة إلى مأسستها وتحديثها دون التخلي عنها.
وبالعودة إلى المدخل النظري الغربي الذي يدعو إلى خلق أساطير حول الهوية من أجل المساعدة في الاندماج الاجتماعي والتكامل السياسي في المجتمعات حديثة التكوين. نجد أن الحالة الأردنية ليست بحاجة إلى أساطير من أجل التكامل السياسي بل هي بأمس الحاجة في هذه المرحلة إلى هدم الأساطير من خلال تنشئة سياسية جديدة تتغلغل في عمق المجتمع وتخلق ثقافة الحقوق المدنية والسياسية وتعلي من شأن الحريات بالممارسة والفعل.
والتنشئة السياسية معنية علاوة على ذلك بهدم أسطورة الفراغ المعنوي للدولة الأردنية المرتبطة بالنشأة والتكوين والجذور التاريخية والحضارية، والتي طالما أهملت في لجة العراك الإقليمي وفي زخم عمليات التحديث، وبقيت رهن هندسة البيئة الإقليمية ومصالحها.
إن المفاهيم المعنوية الخاصة بالولاء والانتماء الوطني والشعور بالهوية ووعي العلاقة بين المواطن والدولة ومنظومات الحقوق القانونية هي مفاهيم وعمليات اجتماعية بالأساس تصب نتائجها في عملية التكامل السياسي داخل المجتمع والدولة، وهي مهمة عاجلة، تعنى بإعادة إنتاج البناء المعنوي للدولة الأردنية، بعيداً عن التعامل اليومي مع الأحداث .
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد