شكلت ردود الفعـل الدوليـة على الانتصـار الكبيـر الذي حققته حركـة حماس في الانتخابات التشريعيـة اختبـاراً جديداً وجديا لحالـة الانضباط الدولـي خلف القوة العظمـى، وهي الحالـة التي تقيس قدرة الولايات المتحدة على الإمساك بزمام قيادة النظام الدولـي والحفاظ على إجماع أعضاء الأسرة الدوليـة وعلى اقل تقديـر الحلفاء التقليديين والجدد خلف مواقفها التي تفضي إلى تسيير شؤون العالم وتحديد اتجاهات القوة ومساراتها، ورغم ان حالـة الانضباط خلف القوة العظمى قد منيت بخسائر على اكثر من ساحـة وفي أكثر من قضيـة خلال السنوات القليلـة الماضيـة، فإن بدايـة تفكك الموقف الدولي الحليف للولايات المتحدة في مواجهـة وصـول حماس إلى السلطـة بهذه السرعـة يعد واحدة من السوابق الهامـة التي يجب ان ترصد جيداً، وتتطلب الانتباه بأن الولايات المتحدة ليست وحدها في العالم.
راقب العالم خلال الأسبوعين الماضيين كيف تعامل المجتمع الدولي بحالـة من القلق والإرباك مع الانتصار المفاجئ لحركـة حماس في الوقت الذي سعت الولايات المتحدة إلى فرض حالـة من الإجماع الدولي والانضباط خلف موقفها المعلن منذ اليوم الأول لظهـور نتائج الانتخابات والرافض التعامل مع الحركـة التي تصر على وصفها بالإرهابية ونجحت الولايات المتحدة في حشد قوى دولية هامـة خلف موقفها الذي تطـور سريعاً في الدعـوة لوقف مساعدات الدول المانحـة للسلطـة الوطنيـة، ولم يستمر القلق الغربي طويلاً إزاء التحولات التي ضربت في بنيـة السلطـة الفلسطينيـة واخترقـه الروس بدعـوة قادة حماس لزيارة موسكو وما تبعها من مباركـة فرنسيـة لهذه الخطـوة المأمل ان تتم قبل نهايـة الشهر الجاري، في الوقت الذي تشهد المنطقـة نشاطاً دبلوماسيـاً دولياً واقليمياً واسعاً، ما يعني على اقل تقدير بدايـة انهيـار محاولـة خلق الإجماع الدولي حول مواقف القوة العظمى، وخلال الأسابيع القليلـة القادمـة ستجد الكثير من دول العالم الصامتة بأنه لا يوجد أمامها سوى احترام إرادة الشعب الفلسطيني وخياره الديمقراطي.
قد يبدو للبعض ان هذه التطورات تزيد من رصيد حماس المقبلة على السلطـة بحماس وزهـو لكن هذه التطورات تشكل اختباراً قاسيـاً لقدرة هذه الحركـة على التكيف وعلى ممارسـة السياسيـة بعيداً عن ذهنية الفصائل والخيال الثوري، فقدرة الحكومـة الفلسطينيـة الجديدة على استثمار المناخ الدولي الراهن هي الكفيل بخلق حالـة تكيف دولي من نوع اخر يقبل التعامل مع الخيارات الفلسطينيـة ويدفع الولايات المتحدة إلى مراجعـة مواقفها في ضـوء الحقائق الجديدة.
الموقف الروسي الذي بدا للبعض وكأنه مفاجأة موسم التحولات الفلسطينيـة يجد تفسيرات متعددة، بعضها يذهب نحو رغبـة الروس في إعادة الدفء لدورهم التقليدي في الشرق الأوسط وكأنه لا فرق بين الأمس واليوم الا بتبديل ألوان الرايات من الحمراء إلى الخضراء، ورؤيـة أخرى تقول بأن روسيا تريد ان تمشي الخطوة الأولى التي تخفف العبء عن الولايات المتحدة، ضمن نسق من تقاسم الأدوار والمصالح في العلاقات الدوليـة الذي تحتاج له روسيا في هذا الوقت لضمان حضورها، ولو على مقعد الضيف فوق منصـة قيادة العالم، ورؤيـة ثالثـة تذهب نحو تفسير السلوك الروسي بأنه احد تعبيرات عودة نمط جديد من الحرب الباردة، والتي حاولت روسيا في اكثر من مرة منذ سقوط جدار برلين قبل عقد ونصف إعادة إشعالها من جديد وهي تراقب الثورات الديمقراطية الملونة تتسلل إلى محيطها الحيوي واحدة تلو الأخرى.
ومع التسليم بأن كل تلك التفسيرات السابقـة له نصيب من الحقيقـة، إلا ان الأحداث في نهايـة المطاف تقود إلى حقيقـة واحدة مفادها فشل الولايات المتحدة في الحفاظ على حالـة من الانضباط الدولي خلف مواقفها في قضايا الشرق الأوسط تحديداً، الأمر الذي يؤكد من جديد بأنه لا توجد مقدسات أو أوثان في العلاقات الدوليـة وهي قابلـة للتغير والتحول ضمن قوانين يسهل رصدها واكتشافها إلا على من يكتفون بتلقي النتائج ووصف التحولات والمتغيرات الجديدة في كل مرة بأنها زلزال ومفاجآت غير متوقعـة.
بالفعل استطاعت الولايات تحقيق الانضباط والإجماع الدولي في لحظات فاصلـة في إستراتيجيتها لادارة شؤون العالم، وفي حالات عديدة تم هذا الإجماع فوق الأرض العربية، منذ التحالف الشهير الذي حشدته عام 1991م لتحرير الكويت، إلى التحالف الأخير الذي حشدت فيه حوالي (60) دولـة خلفها في احتلال العراق، ما جعلها تضفي دلالات جديدة على مفهـوم الشرعية الدوليـة.
 وعلى الخط الموازي عملت قضايا الشرق الأوسط وتعقيداتها في كل مرة على اختراق قوة الإجماع وحالة الانضباط، وهذه الحالـة المتكررة تفيد في رصد عدة دلالات هامـة؛ أولها ان هناك رغبـة حقيقيـة لقوى عالميـة كبرى أخرى في كسر الاحتكار الأميركي للنفوذ في الشرق الأوسط، وتجاوزت هذه الحقيقـة مجرد الرغبـة إلى توفر القدرة، مثلمـا لمسنا ذلك في الموقف الروسي من حماس أو الموقف من ملف إيران النووي. ومن المعروف ان الولايات المتحدة قيد شيدت منذ مطلع التسعينيات ما يشبـه جدار عزل استراتيجي حول الشرق الأوسط منعت من خلاله أي امتداد دولي لهذه المنطقـة من دون ان يكون في سياق استراتيجيتها. الدلالـة الثانيـة تؤكد ان الشرق الأوسط ما زال يشكل ساحـة كبرى لمصالح دوليـة تزداد نمواً، وهو عكس التصـور الذي شاع بعد انتهاء الحرب الباردة وبشر بتراجع أهميـة المنطقـة في سلم أولويات السياسـة الدوليـة. أما الدلالـة الثالثـة، التي تشير إليـها حالة ضعف الانضباط الدولي خلف القوة العظمى، فتؤكد عدم استقرار مفهوم القوة ومعاييرها في نسق العلاقات الدولية الجديدة، بمعنى ان الاحداث تشير إلى ان مفهوم القوة مايزال يعاني من سيولة عالية وغموض.
على كل حال، تستدعي حادثة حماس وروسيا وما تحمله من إشارات قوية على تحولات منتظرة في نسق السياسات الدولية التذكير بأدبيات الفكر السياسي الأميركي الذي نشط مؤخراً في استدعاء نماذج مقترحة لادارة القوة الأميركية وطرح خيارات استراتيجية جديدة امام واشنطن، ومن بينها السؤال المحرج الذي طرحه هنري كسينجر (ما الذي يُمكن للولايات المتحدة ان تفعله لاقناع أصدقائها المقربين باحترام خياراتها الاستراتيجية، وكيف تحول أميركا قوتها المطلقة الآخذة في التجوال على مساحة الكرة الأرضية إلى إجماع دولي، ومبادئها الخاصة إلى معايير مقبولة على أوسع نطاق). وفي الوقت الذي ازدادت فيه اتجاهات العزلة والدعوة إلى الانسحاب من العالم تزداد فيه الأصوات الداعية إلى الاستفادة من تجربة الإمبراطورية البريطانية في إدارة شؤون العالم، وهو الأمر الذي بات يكرره أمثال برجنسكي وكسينجر وجوزيف ناي وغيرهم، حيث يمكن للولايات المتحدة ان تتعلم الكثير من درس بريطانيا في القرن التاسع عشر عندما كانت قوة متفوقة على الجميع وحافظت على توازن القوى بين الدول الكبرى الرئيسية، وعملت على تطوير نظام اقتصادي دولي منفتح.
المهم ان الأحداث التي تبدو صغيرة في يوميات السياسة الدولية على غرار الاختراق الروسي بدعوة حماس لزيارة موسكو تثبت بان الولايات المتحدة ليست وحدها في العالم فهي القوة العظمى، ولكن ليست القوة الوحيدة.
 

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد