حملت تقارير قبل أسابيع معلومات أولية حول حجم ميزانية الدفاع للولايات المتحدة لعام 2007م، التي ستصل حسب هذه التقديرات الى حوالي 439.3 مليار دولار، ويستثنى من هذا الرقم كلفة الحرب الأميركية في العراق التي تقدر بحوالي 120 مليار دولار، وتتحدث أرقام أخرى بان ميزانية الدفاع الصينية احتلت 14.7% من إجمالي الناتج الوطني الصيني على ضخامته التي تقدر بحوالي (8.15) ترليون دولار. كل هذا الانفاق العسكري الذي يصب في بوتقة القوة الصلبة يثير استفهامات كثيرة حول مقاصد الاستراتيجيات الأمنية في عالم اكثر ما يفتقد اليه الأمن والطمأنينة في واحدة من اكثر لحظات التاريخ المعاصر اضطراباً وافتقاداً للأمن، وبل أكثرها في الإفراط والانفلات باستخدام القوة الصلبة وهي المصدر الحقيقي لكل أشكال الخوف العابر للحدود.
تبرز القيمة التحليلية لهذه الأرقام بالنظر الى تجارب الديمقراطيات الناشئة في العالم التي تحاصر بالفقر والكوارث من جهة، وبالعودة الى مدخل الإصلاح السياسي المعاصر الذي يتحدث عن دمقراطة العالم كأداة أساسية لضمان الأمن العالمي، وبالتحديد الأمن القومي للدول العظمى من جهة أخرى. وفي وسط هذه اللجة يحتار المرء حول مستقبل الديمقراطيات الناشئة في العالم في ضوء فائض القوة الهائل الذي يعيد تدوير الديمقراطية حول الكرة الأرضية بيد وباليد الأخرى يعيد تجسيد فكرة المجمع الصناعي العسكري الذي تدور حوله ذكريات الحرب الباردة العتيدة، والتي عملت على مدى اكثر من نصف قرن في إفقار العالم.
وللأسف، فالعولمة التي تنال الاقتصاد والاتصال والإرهاب وتفعل فعلها في نشر الأمراض الفتاكة والأسلحة النووية تقف عاجزة وتتعثر خطاها في توفير بيئة جدية لنشر الديمقراطية. وفي الوقت الذي ترى الدول العظمى بقيادة الولايات المتحدة ان التحول الديمقراطي هو الطريق الآمن لضمان أمنها القومي في عالم تعصف به المتغيرات، ولم يعد فيه معايير واضحة لحدود القوة وساحاتها ومواقيتها فإن المجتمعات والدول المتحولة تراهن على الديمقراطية وكأنها الحل السحري لكل أزماتها وأداة العبور للحاقها بالتاريخ وحركة العالم والعصر.
وبعد عقد ونيف من بدء الموجة الجديدة من التحول نحو الديمقراطية، نلاحظ ان معظم الديمقراطيات الناشئة تعصف بها رياح الفقر وتتعثر فيها التنمية ويكرس فيها الخراب الاقتصادي الممتد من تعثر جهود الإصلاح الاقتصادي في أوروبا الشرقية الى جائحة الفقر الممتدة من مالي الى تنزانيا ومن بنغلادش الى اندونيسيا وسيريلانكا مروراً بالمجاعات المستوطنة والعجز الجديد أمام الكوارث الطبيعية. ومن دون ترتيب تجسد هذه اللحظة التاريخية حالة من شبة التطابق بين أطلس خرائط الفقر وخرائط الديمقراطيات الناشئة التي أوجدتها الموجة الجديدة، ويبدو ان الحظ العاثر لموجة الديمقراطية الراهنة قد جمعها في حالة اشتباك مع عصف العولمة الاقتصادية وقوانينها المعروفة.
تأتى أرقام الميزانيات العسكرية لتثير الرعب من جديد حول حجم اقتصاد التسلح في العالم، ويكفي النظر الى ما لحق بالميزانية العسكرية الأميركية من زيادة تقدر بحوالي 35% منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/2001 الى جانب ذلك مخصصات الدفاع والأمن في العشرات من دول العالم، في مقابل تواضع المداخل الأخرى التي تتحدث عنها الاستراتيجيات الأمنية قبل غيرها والتي انشغلت على مدى السنوات الخمسة الأخيرة على اقل تقدير بمسألة المدخل الديمقراطي والإصلاح السياسي القائمة على مضامين القوة الناعمة ومعركة العقول والأفكار.
صحيح ان انشغالات العالم ومنذ مطلع القرن الجديد دارت حول تغيير العالم وادارته نحو الديمقراطية وان جاء ذلك في اغلب الأوقات بأدوات غير ديمقراطية، ولكن في الوقت الذي يعد فيه هذا المنطق المادة الأساسية التي تعلكها وسائل الإعلام وتتداولها الدوائر الاستراتيجية الأكاديمية بقيت قوة عجلة الصناعة العسكرية هي التي تدور على الأرض، ولم يكن من الممكن لزيت وسائل الإعلام القدرة على تحريك أي عجلة أخرى بسرعة اكثر منها. وفي هذه المناسبة من الحكمة تذكّر قمة الثمانية الكبار قبل ثمانية شهور في اسكتلندا، حينما كانت الخطابات بتغيير العالم وبدعم الديمقراطيات الناشئة تملأ عنان السماء بالوعود الكبيرة بتعضيد جهود التنمية وتحسين شروط الحياة على الأرض، وبالمقارنة بين ما تتحدث عنه أرقام الانفاق العسكري مقابل ما ينفق على تغيير العالم بالديمقراطية يبدو مدى سخف المقارنة بأكملها. فالمنطق الآخر لا يشكل اكثر من ساحة جديدة لمعارك كلامية صاخبة برع فيها السياسيون ووسائل الإعلام. وقبل قمة الثمانية الكبار تتساءل الديمقراطيات الناشئة في أفريقيا والتي عدتها تقارير أحوال الحرية بأنها بيئة واعدة لديمقراطيات جديدة سوف تغير وجه التاريخ وتبيض قبل ذلك وجه القارة السوداء عن مصير العديد من المبادرات الدولية التي تجمع بين الديمقراطية والتنمية المستدامة، ومن بينها مبادرة نيباد التي أطلقت في قمة الدول الأفريقية عام 2001م وطرحت برنامج عمل تفصيلي لتحقيق أهداف القارة الفقيرة في الفكاك من اسر التخلف والفقر والتهميش، حيث لاقت هذه المبادرة ترحيباً ورعاية واسعة من قبل المجتمع الدولي آنذاك دون ان تترجم الكلمات الى أفعال على الرغم من كون المبادرة تعد أول إقرار من قبل المجتمع السياسي الأفريقي الرسمي بان التنمية يستحيل تحقيقها في غياب الديمقراطية.
لقد توفرت بيئة تاريخية ملائمة لاحداث تحولات كبرى عبر تقديم قصص نجاح لديمقراطيات ناشئة، وبالتحديد في أفريقيا الا ان الكثير من هذه التجارب مهددة اليوم بفعل تعثر التنمية والفقر والحروب الأهلية والإقليمية والمأجورة قبل أي شيء آخر، هناك 800 مليون أفريقي يحيون وسط المشهد المزمن بين الفقر والجهل والحروب الأهلية والإقليمية ويعيش اكثر من 40% منهم بأقل من دولار واحد في اليوم، ويقتل مرض الإيدز وحده نحو مليوني إنسان سنويا، وهي بيئة شهدت عذابات السياسة وفيها يشاهد بوضوح كيف كانت السياسة الرحم الأول للفقر فقد شهدت هذه القارة 186انقلابا و26 حربا كبيرة خلال خمسين سنة مضت.
وطالما بقيت عجلة اقتصاد العالم تدور حول القوة الصلبة التي تعكسها ميزانيات الدفاع والأمن سيبقى الحديث عن مستقبل الديمقراطيات الناشئة محض دعاية سياسية قديمة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد